بقلم ناصر قنديل

الارتباك الحكومي والعلاقة مع سورية… والعقوبات: ناصر قنديل

قبل العقوبات الأخيرة التي فرضتها الإدارة الأميركية على سورية، كانت سياسة الحكومة تجاه سورية مرتبكة، فهي تدرك أن لا منطق يبرر التعامل عن بعد بلغة المصالح اللبنانية، المنطلقة من حسابات بسيطة، لكون الحكومة السورية محور أي شراكة في حل أزمة النازحين السوريين، في ظل إجماع على حجم كلفتهم على الاقتصاد، ولكون سورية الجوار الاقتصادي الوحيد للبنان، والمعبر الإلزامي للتجارة اللبنانية نحو العمق العربي الخليجي والعراقي، لكن الحكومة لم تقم بأي خطوة مختلفة عما كان سائداً قبلها، لأنها مرتبكة. وهي مرتبكة بفعل إقامة حسابات سياسية تصنعها مخاوف، ومجاملات، وافتراضات لردود أفعال، سواء تجاه بعض الداخل المعارض للعلاقة مع سورية، أو بعض الخارج الخليجي والأميركي الذي يريد ارتهان لبنان وربط علاقته بسورية، بعلاقة هذا الخارج الخليجي والأميركي بسورية.

 

جاءت العقوبات الأخيرة وزادت على الارتباك أسباباً جديدة، وبعقلية المجاملة والمخاوف والافتراضات ذاتها، وقعت الحكومة أسيرة حسابات تشبه الحسابات التي عطلت قيامها بأي خطوة جدية نحو سورية خلال الشهور الماضية. فالقانون الجديد للعقوبات تقرأه حكومات معنية بالعلاقة مع سورية بعين الحد الأدنى لمخاطبة الإدارة الأميركية بروحية توسيع هوامشها في التعامل مع سورية، بينما تقرأها الحكومة اللبنانية بعين الحد الأقصى لتعظيم المخاوف، وتوسيع نطاق الذعر، وصولاً للخضوع تحت الارتباك المضاعف. والقانون الجديد للعقوبات على سورية أدنى مرتبة من مستوى صرامة قوانين العقوبات التي تطال إيران، وأقلّ شمولية منها، ورغم ذلك قامت حكومات جوار إيران برسم سياسات تنبع من مصالحها الوطنية، وهذا يشمل العراق وباكستان وتركيا، وحافظت على مبادلات تجارية واستجرار الطاقة والغاز، واضطر الأميركيون للتسليم بالواقع وأوجدوا له إطاراً مقونناً أسموه بالاستثناء.

في أماكن مشابهة بالتعامل مع الأميركيين يمكن وصف السياسات اللبنانية بالجبانة، رغم وجود تنوع سياسي في تركيبة الدولة، يتيح وصف الحكومة اللبنانية، بما في ذلك الحكومة السابقة، بأنها أقل مراعاة للسياسات الأميركية من حكومات دول كمصر وتركيا، ورغم ذلك تتجرأ حكومتا مصر وتركيا على إقامة علاقات مع روسيا والصين اقتصادياً وحتى عسكرياً، لا يجرؤ لبنان على بعضها. ودول الخليج التي يقيم لبنان الحساب لغضبها إذا توجه نحو سورية، وهو القريب وهي البعيدة، وهو المحتاج وهي المستغنية، تقيم اتصالاً رئاسياً لا يجرؤ لبنان على مثله مع سورية، كحال دولة الإمارات مثلاً.

في سياسة العقوبات، قواعد دولية قانونية، أبرزها التعويض على صاحب الحق المتضرر، فلبنان يشكو من حجم خسائره في قضية النازحين ويستحضر في خطة الحكومة الاقتصادية رقماً للبنك الدولي يقدر هذه الخسائر بـ 45 مليار دولار، لكنه لا يجرؤ أن يخاطب الذين يطلبون منه الامتناع عن التوجه للتفاهم مع الحكومة السورية، ليدفعوا له قيمة خسائره، طالما أنه يلتزم بطلباتهم، بينما تنال تركيا أموالاً أوروبية كل مدة تلوح فيها بالتخلي عن استضافة النازحين، وتقدير الخسائر التي تترتب على الاقتصاد اللبناني نتيجة سوء العلاقة بسورية، بـ 10 مليارات دولار سنوياً، إذا احتسبنا فوارق الفاتورة النفطية بين تشغيل خط كركوك طرابلس الذي يمر بسورية وعدم تشغيله، واحتسبنا قيمة التجارة العراقية عبر مرفأي بيروت وطرابلس والفائتة على لبنان بسبب عدم تنظيم العلاقة بسورية، وحجم النمو الفائت في قطاعات المصارف والاستشفاء والتعليم والصناعة والسياحة، بسبب عدم تأمين تنقل بري سلس للعراقيين عبر سورية إلى لبنان، والحكومة التي تضرب أخماساً بأسداس مع صدور قانون العقوبات الأميركي الجديد، تقيم الف حساب لتوقيع عقد استجرار كهرباء من سورية، رغم صفة الملح والضروي التي يتسم بها مع فصل الصيف، بانتظار ما يمكن أن يقوله الأميركيون.

حجة بعض الحكومة أنها تفاوض صندوق النقد الدولي، وأنها تحتاج النجاح في هذه المفاوضات، وأن الموقف الأميركي حاسم في تحقيق ذلك، ولذلك فهي مضطرة لمراعاة الممنوعات الأميركية. وهذه عينة لا سيادية مقلقة عن طبيعة التعامل المتوقع عندما تبدأ الشروط التي يعرضها الصندوق للمساهمة مع لبنان، فماذا لو كان الحصول على دعم الصندوق مشروطاً بإنهاء ملف الحدود البحريّة، تحت شعار ضمان العائد اللبناني من النفط والغاز. وهذا يعني الإسراع بما يتيسر من صيغة تفاهم لترسيم الحدود، وبالتالي قبول شروط كيان الاحتلال، وهنا مكمن الخطورة في العقلية الحكومية التي تدير سياساتها الخارجية بفوبيا الغضب الأميركي والخليجي.

الذي يجب أن يعرفه المعنيون في الحكومة هو أن الأميركي لن يقيم حساباً لمصالح لبنان، إلا إذا وجد حكومة شجاعة قادرة على اتخاذ القرارات النابعة من مصالحها الوطنية، وترك الآخرين يفكرون في الاحتجاج وتقديم الاعتراضات وعندها نناقش ونفاوض وربما نتراجع لكن مقابل تعويضات وأثمان، بينما الوقوع في الذعر من غضب أميركي مفترض ففيه سذاجة سياسية، وانعدام لخبرة العلاقات الدولية، هذا مع العلم أن الزمن السياسي الراهن، هو زمن الضعف والتراجع في صورة أميركا ومكانتها،، ويا ليت المعنيين يعلمون أن قراراً بشراء المشتقات النفطية من إيران بسعر مخفض وسداد ميسّر على الطريقة الفنزويلية، هو أفضل الطرق للحصول على الأفضل من الأميركيين، ومثله طلب رسمي علني لحكومتي العراق وسورية بتشغيل أنبوب نفط كركوك طرابلس، ربما ينتهي بطلب أميركي بتعهّد ترميم وتشغيل الأنبوب بدلاً من الغضب والقطيعة رداً على طلب تشغيله.

– كثير من الشجاعة وقليل من الحسابات، أفضل من كثير من الحسابات وقليل من الشجاعة، هكذا تتصرّف الدول ذات السيادة، تنطلق من مصالحها، وتنتظر ردود الأفعال لتتعامل معها، وربما يكون مثال منع زراعة القنب الذي اتخذه لبنان في التسيعينات عينة مناسبة عن حجم الخلل السيادي والسياسي في الأداء اللبناني، فيومها تبلغ لبنان وتركيا والمغرب طلبات أميركية متشابهة، وبالحصيلة توقف لبنان فوراً مقابل بعض الأبقار وبذور دوار الشمس، بينما حصل الأتراك والمغاربة على مليارات الدولارات ولا يزالون يحافظون على زراعتهم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى