بقلم ناصر قنديل

آخر تطبيقات نظريّة غوبلز في الحرب على سورية التاريخ يُعاد مرتين: الأولى مأساة والثانية مهزلة: ناصر قنديل

يقف الناس بذهول أمام الكمّ الهائل للمنشورات والتقارير والتحليلات والأخبار، التي تتحدّث عن مجموعة من المتناقضات التي لا تجتمع في نص واحد، ولكنها تصب جميعاً في مجرى نهائي، عنوانه أن الحلف الروسي الإيراني السوري يتفكك، وأن مصير سورية ورئيسها على طاولة التفاوض بين حلفائها وخصومها، وأن الأمر بين التقاسم والتقسيم بات محسوماً، وأن اليد العليا عادت في سورية لما تقرره واشنطن وتل أبيب، وأن كل يحدث بما في ذلك مَن يقف وراءه «أبطال» تافهون هو بعض من السياقات التي ستنتهي في هذا القدر المرسوم لسورية. وكل حدث بما فيه ما يعبّر عن حال عدو مهزوم، هو استعداد للنهوض، وكل سلوك مأزوم في حلف الهزيمة هو جزء من خطة تضليل، وأن كل الوقائع التي تقولها الجغرافيا وقد كتب عبرها التاريخ الحديث للمنطقة والعالم ليست إلا أوهاماً مصيرها الزوال.

 

الوقائع التي لا تقبل النقاش عند المطلعين والمتابعين لتفاصيل التفاصيل، والذين يعيشون ما وراء الكواليس وما أمامها، تقول إن الأميركيين يعيشون مياومة وجودهم في سورية بانتظار مخرج يحفظ ماء الوجه لتبرير رحيل متخذ القرار، وأن الأتراك ينتظرون ما هو أكثر من ماء وجههم، لكنهم عزموا على الرحيل، وأن الغارات الإسرائيليّة المكثفة لمنح المصداقية للحديث عن تغيير جدّي في قواعد الاشتباك وما يرافقها من تصريحات وبيانات إسرائيلية وأميركية، لم تمسّ بعد بأيّ من ركائز قواعد الاشتباك وهي تدار بعناية من أصحابها كي لا تمسّ بهذه القواعد، وأن دول وقوى محور المقاومة التي لا تزال في مرحلة عنوانها، دم القائدين قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، تراعي متغيّرات تعيش شعوبها تحت وطأتها، عنوانها مواجهة جائحة كورونا، والمخاطر الاقتصادية والاجتماعية، وتضع ثقل مقدراتها في هذه المواجهة، التي إن قصرت مدتها ستليها العودة للمنازلات الكبرى، وإن طالت ففي قلبها ومن داخلها ستظهر المفاجآت التي تؤكد وتحسم، من هو صاحب اليد العليا في هذه المنطقة ومعادلاتها، وتقول بأن الحلف الذي صنع النصر في سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد باقٍ، وباقٍ بقيادته، وسيحقق المزيد في ظل مزيد من التماسك وتحت رعاية هذه القيادة، لأن القيادة في محور المقاومة وجبهة مكافحة الإرهاب لا تقررها الموازين بين الحلفاء، بل شرعيّة السيادة الوطنية للساحة الرئيسية للاشتباك وهي سورية.

يقول أحد قادة محور المقاومة، نسمع ونتلقى الأسئلة حول هذا الكم المنتظم والمتمادي والمتدفق من التقارير والمعلومات المفبركة، ونعلم أنه مجرد محاولة للإرباك، حيث الصمت يترك مجالاً لتترك عملية الضخ الكثيف والواسع والمتواصل بصماتها في إرباك الرأي العام، والدخول في لعبة النفي والتوضيح للردّ، يحقق هدفاً جزئياً للعدو هو إظهار الضعف كما يعني للعدو أنه نجح بالاستدراج وفرض قواعد اللعبة السياسية والإعلامية وعناوينها، ولذلك فخيارنا هو الرد العملي بالوقائع، وهو ردّ تنضج ظروفه ولم تعد بعيدة، وهو ردّ سيتوزع نصيب كل طرف من حلف الأعداء من الخسائر الناجمة عنه بحجم أسهمه في شركة الحرب الفعلية والإعلامية. بينما يقول دبلوماسي روسي كبير ومخضرم وفي قلب معادلة القرار السياسي لقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، نضحك كثيراً عندما نسمع ما يتمّ تسويقه على بعض الفضائيّات، وفي بعض التقارير الصحافية، لأن أصحابها تحت الطاولة وفي الكواليس يفاوضوننا على مساعدتهم للخروج مما يسمّونه بالمأزق السوريّ، بما في ذلك الأميركيون والأتراك والإسرائيليون وبعض العرب، ويختم بأن نتائج هذا التفاوض على رحيلهم وليس على رحيل الرئيس الأسد، لم تعُد بعيدة.

خلال بداية الحرب على سورية شارك الكثير من الأكاديميين السياسيين والعسكريين، في تناولها تحت عناوين مثل الجيل الرابع والخامس والسادس للحروب، والتدقيق في منشأ النظريات يوصل إلى الشعور بسخافة التنميط التي يتم عمداً توزيعها على نظريات الحرب، لمنحها سمة القوة، فيما شكلها ومضمونها يعبّران عن الضعف. فالحرب هي الحرب، هي العنف بوسائل التقنيات المتاحة لكسر إرادة العدو، هكذا كانت وهكذا ستبقى، فلا التقابل بين الجيوش حرب جيل أول، ولا حرب العصابات حرب جيل ثانٍ، ولا حرب الردع حرب جيل ثالث، ولا الحرب غير المتماثلة بمواجهة تشكيلات غير دولتية، هي حرب جيل رابع، ولا حروب الفتن هي حرب جيل خامس، ولا الحرب بالتلاعب بالإعلام والرأي العام هي حرب جيل سادس. ففي الحرب العالمية الثانية التي وصفت بآخر حروب الجيل الأول شهدنا كل أنواع الحروب وأجيالها، أليست حرب العصابات التي خاضتها المقاومة الفرنسية نموذجاً متقدماً لحرب العصابات التي سُمّيت بحرب الجيل الثاني، ثم أليست الغارات النووية على اليابان أول وآخر حروب الجيل الثالث القائم على الردع، وكذلك أليست الإنقلابات السياسية والعسكرية والثورات في إسبانيا وإيطاليا ودول آسيا وأفريقيا المساندة لألمانيا هي حرب الجيلين الرابع والخامس الفعلية، وأخيراً بماذا يمكن وصف المضمون الفعلي لما فعله بول غوبلز غير أنه أسس لمدرسة حرب الجيل السادس، وبالتوازي أليست الحرب على سورية كما كانت الحرب العالمية الثانية جمعاً لكل أجيال الحرب؟ وطغيان شكل من الحرب على سواه كان تعبيراً عن ضعف أصحاب قرار الحرب وليس عن ذكائهم، فأرادوا تسويقه بعنوان الأجيال الجديدة للحروب، وقد بات ثابتاً أنهم لم يزجوا بجيوشهم في الحرب ليس اتباعاً لنظرية الجيل السادس، بل هم لجأوا لجيشهم الرديف القوي الذي اسمه تنظيم القاعدة لأن جيوشهم، كما قالوا بألسنتهم بعد هزائم جيوشهم في حروب العراق وأفغانستان ولبنان وغزة، باتت تخسر حروبها لأنها ليست قادرة على بذل الدماء؟

الفرق كبير بين استخدام القصف المدفعي في التمهيد للهجوم واستخدامه لتغطية الانسحاب، ومثله الفرق كبير بين حرب الشائعات والتضليل الإعلامي لتغطية هجوم حقيقي تهيّأت ظروف إطلاقه، وبين هذه الحرب الإعلامية واليد فارغة من كل الخيارات، والفرق يصير أكبر عندما يكون بين استخدام عبقرية غوبلز بإضافة إبداع الرهان على نمطية تكرار سقوط الدول والحكومات في “الثورات العربية” لمنح المصداقية لكذبة “الثورة السورية”، وبين العودة لمنهج غوبلز ونظرية إكذب إكذب فلا بد أن يصدقك الآخرون، في لحظة اقتراب نهاية الحرب وقدرتها على فعل المزيد، بتكرار مملّ يعوزه الإبداع وتنقصه قدرة الإقناع، فغوبلز الأب الحقيقي لحروب الإعلام أقام نظرية ضاعت في شعار الكذب، وهو مَن صاغ معادلة حروب العقول والقلوب، تأسيساً على ابتكاره لإعلام تنميط العقول، أي وضع المتلقي بين خيارين إثنين يقوم صانع الخطة باختيارهما بعناية بحيث يكون 99% من الأجوبة على السؤال بالتفاضل بينهما، عاجزاً عن تخيّل وجود خيار ثالث، وهو الذي قال في محاضراته لطلابه والعاملين معه، إن سألت ضيفك أتريد القهوة أم الشاي، فلن يخطر في باله أن يطلب العصير، وما نسمعه حول سورية هو النسخة الثانية من الحرب الإعلامية التي رافقت بداية الحرب على سورية، مع فارق أنها تفتقر لسحر ودماء ومقدرات ومسلحي وجهوزية النسخة الأولى، عندما طرح السؤال التنميطي على السوريين، عليكم الاختيار بين “الثورة” و”النظام”، فكان الجواب السوري مخالفاً لنمطية الذكاء الإلكتروني، وقالوا نريد الوطن والدولة ومن خلالهما سنقاتل الإرهاب والاحتلال والتقسيم، وعبر انتصارهما نعيد تشكيل نظام أجمل. وأغبياء هم أصحاب الموجة الثانية من حرب الكذب، مهما جنّدوا لها من مقدرات، لأن فعلتهم لن تفعل شيئاً سوى أنها تؤكد حقيقة معادلة فريديريك هيغل وكارل ماركس الجدلية، بأن التاريخ لا يعيد نفسه مرتين وإن فعل فالمرة الأولى على شكل مأساة، والثانية على شكل مهزلة.

سورية بخير والعلاقة الروسية السورية الإيرانية بخير، والعلاقة الروسية الإيرانية بخير، والعلاقة الإيرانية السورية بخير، والعلاقة الروسية السورية بخير، وما يُثار حول مستقبل الرئاسة في سورية، يستدرج السؤال، هل ثمة ما هو واقعي في السياق: فالرئيس الأسد لم تنفع معه الضغوط التي رافقت كل أهوال الحرب ليترك موقعه القيادي في الدفاع عن سورية وسيادتها والنظر لرئاسته كتفويض من الشعب لخوض الحرب، فهل تغير شيء من هذا؟ والجواب هو صفر مكعب. إذن فما كنا نقوله في الماضي نعيده اليوم، مَن يريد إخراج الأسد من الرئاسة عليه أن يغزو سورية ويحتلها بالكامل ويقضي على كل مقاومة ستنطلق في ربوعها بوجه الغزاة. فهل يحاول تلامذة غوبلز الأغبياء إقناعنا بأن حلفاء سورية الذين لو صدقنا الكلام عن رغبتهم بالانسحاب سيذهبون لخوض حرب الباطل لحساب أعدائهم بالوكالة، لأنهم تعبوا من حرب الحق التي حققوا فيها الانتصارات؟

– كذبتان لا تصنعان حقيقة، هذا هو الفرق بين علم الجبر وعلم السياسة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى