بقلم ناصر قنديل

ما هي «الدولة داخل الدولة»؟: ناصر قنديل

ركّز الرئيس فؤاد السنيورة في مؤتمره الصحافي المخصّص للردّ على حملة حزب الله حول متابعة فوضى المالية العامة ومكافحة الفساد، على توصيف ما يقوم به حزب الله ببناء دولة داخل الدولة تقوم مكان مهام الدولة الأصلية، متحدثاً عن قضاء وأمن وجمارك ومرافق بديلة، لكنه من حيث لا يدري وقع في هفوة تحوّلت فخاً، ربما بسبب صلة مؤتمره الصحافي بمساءلته عن عدم وجود قيود للمساعدات السعودية والخليجية التي وردت بعد حرب تموز 2006، فقال متسائلاً عن مصير المساعدات الإيرانية، أين هي قيود هذه المساعدات؟ وفي الواقع ثمة مساعدات إيرانية قدمت للدولة اللبنانية مباشرة، يعرفها السنيورة لأنها مرّت بقنوات مؤسسات تخضع لاطلاعه كرئيس للحكومة في فترة الحرب وما بعدها، لكن ما تحدث عنه السنيورة من مرافق موازية للمرافق الحكومية، فهي مرافق صحية وتربوية وعسكرية وأمنية، تقوم بمهام وتؤدي خدمات تغيب عنها الدولة ضعفاً أو عجزاً أو تهميشاً لفئات ومناطق، وتمولها إيران بدلاً من أن تمولها الدولة. فالأمر هنا ليس تضييع مال الدولة من دون إنجاز المهام المرصودة للقيام بها، بل توفير مال الدولة بالقيام بالمهام المفروض القيام بها بمال غير مالها. فالمقاومة كقوة عسكرية لم تفتح حرباً، بل فُتحت على لبنان وعليها حرب، وعندما تصدّت للحرب نيابة عن الدولة ومؤسساتها فعلت ذلك بموازنات غير موازنة الدولة، وعندما أسرت جنود الاحتلال لمقايضتهم بالأسرى اللبنانيين قامت بعمل أمني لا تقدر المؤسسات الأمنية اللبنانية القيام به لقضية وطنية لبنانية عجزت الدبلوماسية عن حلها. وعندما تلاحق أجهزة أمن المقاومة شبكات العملاء تقوم بوضع نتاج عملها بتصرف الأجهزة الأمنية اللبنانية، وقد قطعت أكثر من نصف الطريق في متابعتهم، بمال هو غير مال الدولة، وللقيام بمهام هي مهام عجزت عنها الدولة رغم كونها من مهامها، والشيء نفسه في شؤون الصحة والتربية .

تشكّل مقاومة حزب الله ومؤسساته الداعمة للأمن والصحة والتربية، نوعاً من دفاع مدني على مستوى أوسع مدى ونطاقاً من الدفاع المدني الذي نعرفه، لكنها لا تحل مكان أجهزة الدولة، فهي لا تعتقل ولا تقوم بالتوقيف، ولا تحاكم ولا تسجن ولا تعاقب، ولا تفرض الغرامات، ولا تستوفي بدلاً من الدولة العائدات. هي أجهزة شعبية تطوّعية تساعد في سد ثغرات الضعف العام في بنية الدولة، دون أن تطلب مقابلاً، أو أن تستوفي عائداً، أو تتلقى تعويضاً، والذي يريد أن يسأل عن سبب الحاجة لهذا الدفاع المدني الشامل الذي يمثله ما يؤديه حزب الله في مجال القوة والأمن والصحة والتربية، عليه قبل أن يصفه بـ «الدولة ضمن الدولة» أن يسأل عمن أقام فعلاً «دولة ضمن الدولة»، تولت بشكل منسق ومبرمج بمنع الدولة من القيام بمهماتها، فثمة شبكة متكاملة تتوزّع بين سياسيين ومسؤولين في مؤسسات الدولة وسفاراتها وبرلمانها وحكومتها، تتولى تعطيل كل محاولة لتمكين الدولة من امتلاك وسائل دفاع جوي وسلاح ردع، لمنع «إسرائيل» من مواصلة انتهاكاتها للسيادة اللبنانية، وهي امتداد للدولة ضمن الدولة التي كانت تسوّق نظرية قوة لبنان في ضعفه وتمنع من وجود جيش قادر على حماية الحدود، وهي ذات الدولة ضمن الدولة التي ترتضي المشاركة في الحملة على سلاح المقاومة وتغاضت وتتغاضى عن الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وكان قيام المقاومة، كما كان استمرار الحاجة إليها نتاجاً طبيعياً لما اقترفته وتقترفه أيدي اصحاب الدولة ضمن الدولة.

تتشارك الدولة ضمن الدولة التي تتولى مهمة إضعاف قدرة لبنان على حماية نفسه بوجه المخاطر الإسرائيلية، مع دولة أخرى ضمن الدولة تتولى مهمة حماية المحاصصة الطائفية والتناسل غير الشرعي لنظام المحسوبية وتتشارك معهما دولة ثالثة ضمن الدولة تتولى ترويج الفساد وحمايته، تحت شعار التمرير المتبادل للمنافع والصفقات والتعيينات والتلزيمات، وهكذا بات في لبنان فدرالية دويلات ضمن الدولة يسند بعضها بعضاً، فتستنفر لمنع كل تحديث للنظام السياسي، وتتساند لمنع أي مكافحة جدية للفساد وضمان حسن سير التعامل مع المال العام وفقاً للقوانين، وتستنهض قواها لمنع كل دعوة جدية لبنان دولة قوية بجيش قادر على منع الانتهاكات الإسرائيلية، وقوية على المنظومات الطوائفية الممسكة بقرارها.

لذلك كان واضحاً أن الرئيس النسيورة أراد استنفار أركان المنظومة لقطع طريق المساءلة والمحاسبة، محذراً حزب الدولة ضمن الدولة، أن النجاح بتصويب مسار ملف المالية العامة سيطالهم جميعاً، وسيكون بداية لفتح ملفات المافيات والصفقات والسمسرات، كما سيعني فتح الباب لإصلاح سياسي ونظام انتخابي ينهيان كونفدرالية الطوائفية ونظام المحسوبية، لحساب دولة المواطنة، كما سيعني بداية قيام الدولة القوية على الطوائفية، لكنها القوية أيضاً على الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية بمفهوم الدولة الوطنية التي لا تؤجر قرارها التسليحي للأميركي، بل تخضعه لقياس مصالحها العليا فقط.

– أخطبوط بثلاث نسخ من «دولة ضمن الدولة» يحكم لبنان، والفوز في المعركة عليه متكامل لا يتحقق بالمفرق بل بالجملة، لأنه يعني الفوز بمعركة «قيام دولة الوطن والمواطنة».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى