إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (31) حميدي العبدالله

من حيث المبدأ، ومن الوجهة النظرية, تتوفر لسورية قدرات وطنية، وعلاقات صداقة مع دول كثيرة، وبيئة جاذبة، تمكنها من إطلاق عملية إعادة إعمار ناجحة، والتغلب على تركة الحرب الثقيلة. ولكن آفاق عملية البناء وإعادة الإعمار ليست محصورة بذلك، بل إن عناصر أخرى تحدد هذه الآفاق وتتحكم بمسيرة إسهامها في العملية، فما هي هذه العناصر الأخرى، وهل تتوفر لسورية هذه العناصر وتجعلها من الناحية العملية، وليس فقط المبدئية، بيئة جاذبة لموارد إعادة الإعمار؟

لا شك أن الأمن والاستقرار أهم العوامل التي تشجع الاستثمار، بمعزل عن مصادره على التوجه إلى هذا البلد أو ذاك. كثير من دول العالم تشكل بيئة استثمارية هامة لكنها غير قادرة على جذب الاستثمار لأسباب تتعلق بالأمن، إن حال الاضطراب الحاد دون وصول الاستثمارات وحرمان تلك الدول من مصادر التمويل وجذب الاستثمار. ومما لا شك فيه هو أن الحرب الإرهابية التي استهدفت سورية، وعلى الرغم من شراستها، وعلى الرغم من الدول التي شاركت فيها بأشكال مختلفة، وعلى الرغم من تسببها بغياب الأمن في مناطق واسعة من سورية، إلا أنها لم تقوض مكانة سورية وسمعتها كبيئة آمنة بالنسبة للاستثمار الخارجي.

ثمة استثمارات كثيرة لبعض الدول الخليجية في سورية كانت قبل اندلاع الحرب، وعند اندلاعها أضرت ببعض هذه الاستثمارات، وتحديداً في المناطق التي سيطرت عليها الجماعات الإرهابية المسلحة، ولكن جميع الاستثمارات الأخرى في المدن الكبرى العائدة لمستثمرين خليجيين لم يطالها أي أذى، وحافظت الدولة السورية على هذه الاستثمارات على الرغم من توقفها بسبب قرار من بعض الحكومات أو بسبب صعوبة تأمين الأرصدة اللازمة نتيجة للعقوبات التي فرضت على سورية، أو نتيجة الاضطراب الأمني الحاد الذي شهدته سورية في السنوات الثماني الماضية وأوقفت جميع الاستثمارات، بما في ذلك استثمارات الدولة والقطاع الخاص السوري. ولكن ما أن انحسرت الحرب عن الجزء الأكبر من الأراضي السورية، حتى عادت الاتصالات بين بعض المستثمرين الخليجيين وقطاع الأعمال في سورية بهدف إحياء وتنشيط الاستثمارات السابقة والبحث عن استثمارات جديدة في ضوء التقديرات الأولية عن كلفة إعادة الإعمار والفرص الجديدة المتاحة للإسهام في العملية. وقد عكس جدول الأعمال الذي جمع غرف التجارة والصناعة الإماراتي مع الوفد الاقتصادي السوري برئاسة أمين سر اتحاد غرف التجارة السورية المجالات الجديدة التي يمكن للاستثمار الخارجي المشاركة فيها، فقد أفيد بأن الغرف السورية والإماراتية ناقشت أمور القطاع الصناعي والتبادل التجاري والصادرات والمعارض والزراعة والتطوير العقاري والعمراني والسياحة والطاقة البديلة. وبديهي أن هذه مروحة واسعة لم تكن ملحوظة في فترة ما قبل الحرب. وشملت المحادثات عودة عمل شركات الطيران الإماراتية إلى سورية، تضمنت عودة عمل شركات طيران رئيسية، وإعادة تفعيل المشاريع الإماراتية المتوقفة, وعكست المحادثات رغبة من قطاع الأعمال الإماراتي للاستثمار في الطاقة على نحو خاص. وكان هناك اتفاق مبدئي يعكس الآفاق الواعدة لعملية إعادة الإعمار بين قطاعي الأعمال الإماراتي والسوري على إحداث شركات نقل كبرى، ومركز للصادرات السورية في الإمارات.

ما حدث في الإمارات ينطبق على بلدان خليجية أخرى سيأتي دورها لاحقاً تبعاً لتطور الوضع السياسي وتعزيز الاستقرار في سورية، هذا الاستقرار الذي من دونه لن يكون هناك انطلاقة قوية لعملية إعادة الإعمار. وبديهي أن الاستقرار الذي يشكل خطوة نوعية تشجع على تدفق المستثمرين، وانطلاق عملية إعادة الإعمار بقوة، لا يزال رهن استكمال سيطرة الدولة السورية على ما تبقى من مناطق لا تزال خارج إطار سيطرتها. إذ لا تزال مدينة حلب مهددة يومياً من قبل الإرهابيين الذين يحتلون مناطق في ضواحيها، الضواحي التي كانت موطن الكثير من الصناعات السورية الهامة والمرافق الخدمية المرتبطة بالسياحة، ومعروف أن مدينة حلب هي العاصمة الاقتصادية لسورية وتضم المدينة وضواحيها، أهم الصناعات السورية، كما أن مناطق سورية في الشرق، حيث مصادر الطاقة، لا تزال خارج سيطرة الدولة السورية، وبديهي أن في هذه المناطق ثروات ومواد أساسية لانطلاق عملية إعادة الإعمار، سواء ما يتعلق منها بقطاع الطاقة، والمقصود هنا النفط والغاز، أو ما يتعلق بمواد أولية تخص الكثير من الصناعات السورية التقليدية، وتحديداً المواد الزراعية وفي مقدمتها القطن. لا شك أنه قبل تحرير هذه المناطق لن تشهد سورية تدفقاً كبيراً للاستثمارات، لأن حالة اللايقين سوف تستمر بالنسبة للاستثمار، والاستقرار يظل محفوفاً بالمخاطر، كما أن موقع بعض الاستثمارات هو في المناطق التي لا تزال إلى الآن خارج إطار سيطرة الدولة، بهذا المعنى فإن أفق عملية إعادة الإعمار سوف يظل أفقاً جزئياً محدوداً، ولكن من الواضح أن الأنموذج القائم الآن في المناطق التي تم تحريرها من الإرهاب والتي توازي حوالي 80% من المناطق السورية التي سوف تشملها عملية إعادة الإعمار، فإن الأمن فيها بات راسخاً، وعودة حكم القانون يترسخ تدريجياً، والدولة في صدد خلق البيئة المناسبة قانونياً وأمنياً لاستقطاب الاستثمارات، ليس من المستثمرين المحليين وحسب، بل من المستثمرين العرب والأجانب. واضح أن ما يعني المستثمرين أمرين أساسيين، الأول توفر الاستقرار، أي غياب كامل للاضطرابات التي من شأنها أن تعيق الحياة الطبيعية، وهذا الشرط بات يتوفر بقوة لسورية في غالبية المناطق السورية المعنية بعملية إعادة الإعمار والاستثمار في هذه العملية، لكن لا زال مطلوباً ترسيخ هذا العامل من خلال استكمال استعادة الدولة السورية لسيطرتها على المناطق التي لا تزال خارج هذه السيطرة، والأمر الثاني البيئة التي تشجع على الاستثمار، وبديهي القول إن هذين الأمرين هما اللذان يحددان آفاق عملية إعادة البناء والإعمار،   ويحولانها من تصور مبدئي إلى واقع عملي، وانطلاق عملية الإعمار بزخم يتناسب وحجم الدمار الذي ألحقته الحرب بسورية.

يشكل هذان الأمران عتبة ضرورية لانطلاق عملية إعادة الإعمار، ولكن من الواضح أن لدى الدولة السورية تصميم أكيد وقدرات فعلية على اجتياز هذه العتبة. فالدولة السورية تعطي للجهود السياسية فرصة لاستكمال سيطرتها على المناطق الأخرى من دون حرب تزيد من كلفة إعادة الإعمار، ولديها القدرة العسكرية على استعادتها بالقوة إذا تطلب الأمر ذلك, ومسألة عودة هذه المناطق إلى سيطرة الدولة هي مسألة وقت، وبالتالي فإن الرهان على اجتياز هذه العتبة التي تعترض انطلاق عملية إعادة البناء والإعمار بقوة هو رهان واقعي قياساً إلى قدرة الدولة على اجتياز مراحل أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً مما تواجهه الآن في المناطق المتبقية خارج سيطرتها.

كما أن الدولة بمؤسساتها المختلفة، وبالتعاون مع قطاع الأعمال، بدأت بخلق البيئة التشريعية الملائمة، ويجري الآن تداول اقتراحات جريئة لتنشيط بيئة قطاع الاستثمار والأعمال من مثل إصدار سندات خزينة الدولة بالعملة الصعبة للسوريين في الخارج والدول والشركات، والترويج للتمويل عبر الأسلوب التأجيري والتشغيلي للشركات العامة الإنشائية، وإحداث بيئة مؤسسية لإدارة عملية إعادة البناء مثل وزارة أو مجلس أعلى بصلاحيات أعلى من صلاحيات وزير و وزارة، ومصرف للتنمية والاستثمار.

الأرجح أن الدولة في نهاية المطاف ستكون في وضع يفرض عليها قبول الكثير من الاقتراحات والتصورات الاستثنائية، لأن إطلاق عملية إعمار بحجم ما هدمته الحرب لا يمكن أن يحدث بقدرات الدولة الذاتية، وبناء على مقارباتها وخططها السابقة، وهي ليست أمام خيارات يسهل عليها انتقاء أحدها، بل هي أمام ضرورة وحتمية إعادة الإعمار واستنفار كل طاقة كامنة, وذلك سيفرض بالضرورة اعتماد مقاربات جديدة وجريئة واستثنائية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى