إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (25) حميدي العبدالله

دور الدولة في تمويل إعادة الإعمار

الدولة سيكون لها دوراً أساسياً في تمويل عملية إعادة الإعمار، وهي تشكل بمواردها المختلفة، إضافةً إلى تهيئتها للظروف المناسبة لجذب الاستثمارات وتحفيز المدخرات للإسهام في عملية إعادة الإعمار، المصدر الأساسي لعملية إعادة الإعمار. أما بشأن موارد الدولة المباشرة التي سوف تتحمل العبء الأساسي في عملية إعادة الإعمار، وهي باتت اليوم تتحمل مثل هذه الأعباء وتقوم بجزء من هذه العملية وفق الإمكانات المتاحة، حيث تقوم الآن بترميم المدارس والمستشفيات، وإعادة تأهيل الطرق الرئيسية والفرعية، وتجميل مداخل المدن الرئيسية، وتأهيل شبكات الكهرباء والمياه، بل والمساعدة على إعادة وضع الثروة الحيوانية التي تضررت كثيراً جراء الحرب إلى وضعها الذي كانت عليه في السابق. ومن نافل القول إن الإنفاق على إعادة إعمار كل هذه المرافق يتم اليوم من موارد الدولة وحدها مع دعمٍ محدود من بعض الدول الصديقة التي قدّمت بعض الهبات، مثل الهبات الصينية لقطاع الكهرباء, ولكن الإنفاق الأساسي على إحياء كل هذه المرافق وإعادة إعمارها والتغلب على تركة الحرب كان الفضل فيه بالدرجة الأولى لموارد الدولة.

والمقصود بموارد الدولة مصادر دخل الخزينة، وهي تتدرج على النحو الآتي:

•          الضرائب العامة، لا شك أن جزءاً هاماً من إيرادات الخزينة لا يزال يأتي من الضرائب التي تجنيها الدولة، وعائدات هذه الضرائب يصرف جزءٌ منها على الإنفاق الجاري، بما في ذلك تمويل المجهود الحربي، وهو يحتاج إلى أموالٍ طائلة وجزء كبير منه يخصّص للإنفاق على عملية إعادة إعمار المرافق الخدمية والإنتاجية التي من شأنها أن تعزز فعالية نهوض الاقتصاد من جديد، وتساعد الدولة على تلبية احتياجات المواطنين الملحة التي لا يمكن تأجيلها إلى مراحل لاحقة. بديهي أن موارد الدولة من الضرائب التي تلعب الدور الأكبر في تمويل الخزينة وبالتالي الإسهام في تمويل الإعمار، يمكنها أن تكون بوضع أفضل إذا ما تم مكافحة الهدر والفساد. إذ من المعروف أن الهدر يبدد جزءاً هاماً من عائدات الدولة. صحيح أنه من الصعب حصر أرقام دقيقة توضّح حجم هذا الهدر، ولكن هناك إجماع لدى الخبراء الاقتصاديين أنه كبير جداً ويؤثر بقوة على إيرادات خزينة الدولة, وبالتالي إذا ما وضعت إجراءاتٌ فعالة لمكافحة الهدر والحفاظ على المال العام، فإن موارد الخزينة سوف تتحسن وتكون في حالٍ أفضل عما كانت عليه قبل الحرب, ومن ثم سيكون ذلك إسهاماً في عملية إعادة الإعمار إسهاماً قوياً وفعالاً، وإذا حدث العكس واستمر الحال على ما هو عليه الآن، وما كان عليه قبل الحرب، فإن موارد الدولة ستكون محدودة، وستكون مساهمتها في إعادة الإعمار متواضعة وعلى نحوٍ يتناسب مع قدرات الخزينة الحالية، وهي قدراتٌ محدودةٌ للغاية إذا ما أخذ بعين الاعتبار احتياجات الإنفاق الجاري، وهي احتياجات استثنائية بسبب ظروف الحرب، واحتياجات إعادة الإعمار الملحة، لذلك فإن تفعيل دور الضرائب كمورد من موارد الخزينة، مرهونٌ إلى حدٍّ كبير بعملية مكافحة الهدر وهي عملية يجب أن تعم كافة مؤسسات الدولة.

أيضاً هناك علاقة بين تعزيز موارد الدولة من الضرائب ومكافحة الفساد، إذ من المعروف أن بنية الفساد تكمن بالدرجة الأولى بآليات تحصيل الضرائب، وقدرتها على ضبط التلاعب الضريبي. يومياً يتم الإعلان عن شكل من أشكال التهرب الضريبي، إما بسبب ثغرات في القوانين المرعية، أو بسبب الاحتيال والالتفاف على هذه القوانين. الجزء الكبير من عائدات الدولة الضريبة المفترضة يذهب، إما بسبب الهدر أو بسبب الفساد. والفساد يتجلى أولاً في التهرب الضريبي والاحتيال والالتفاف على القوانين المرعية، ويتجلى ثانياً في ضيق المطارح الضريبية، فكلما تم توسيع هذه المطارح تعززت العائدات الضريبية وتعززت قدرات خزينة الدولة، وصارت بوضعٍ أفضل لجهة الإسهام في عملية إعادة الإعمار وتوفير مستلزمات هذه العملية، ولكن عندما تكون الدولة في وضع لا تستطيع الحصول فيها على ما يجب أن تحصل عليه من عائدات ضريبية بسبب فساد، فإن ضريبة الدولة ستعاني من الشح، وبالتالي تصبح غير قادرة على توفير مستلزمات إعادة الإعمار, أو على الأقل عدم القدرة على توفيرها بالمستوى الذي تحتاجه هذه العملية.

•          من بين موارد الدولة الهامة في عملية إعادة الإعمار عائدات المرافق التابعة للدولة، سواء كانت هذه المرافق إنتاجية أو خدمية. المرافق الإنتاجية يندرج في إطارها بعض المصانع وبعض المداجن والمؤسسات التجارية، وإدارة هذه المؤسسات الإنتاجية إدارةً سليمة وتحريرها من الإهمال واللامبالاة التي تطبيع سلوك العاملين فيها، وإدخال المعايير المعمول بها في القطاع الخاص لتنشيط عمل هذه المؤسسات إن لجهة الإنتاجية أو لجهة مكافحة الهدر والفساد، من شأن كل ذلك أن يعظّم موارد الدولة الحالية، ويزيد من حجم مساهمتها في عملية إعادة الإعمار.

معروفٌ أن الدولة السورية تدير مرافق كثيرة مثل معامل تصنيع الكحول ومعامل الألبان والأجبان وصناعات أخرى، إضافة إلى مساهمتها في التجارة الداخلية وصناعة الأدوية، وإذا ما أُدخلت معايير إدارة القطاع الخاص إلى هذه المرافق بما تعنيه من ضبط وربط وما تعنيه من مكافحة الهدر والفساد، ومكافحة عدم اهتمام العاملين بعملهم وحثّهم على النشاط الدائم للترويج لنتاج هذه المرافق، وإدخال الحوافز إلى عمل هذه المؤسسات، فإن عائداتها سترتفع كثيراً بالمقارنة مع عائداتها الحالية، وبالتالي تصبح عنصراً هاماً من عناصر عملية إعادة الإعمار.

•          قطاع النفط والغاز والفوسفات يمكنها أن تلعب دوراً كبيراً في تعزيز موارد الدولة المكرسة لعملية إعادة الإعمار. من المعروف أنه في جميع هذه المرافق والقطاعات هناك عدد من الشركات الدولية توظف الاستثمار في هذه القطاعات، وبالتالي يمكن للدولة أن لا تتحمل بمفردها عبء إعادة إعمار هذه القطاعات وإعادتها إلى الخدمة إلى ما كانت عليه، بل مساهمة شركات الدول الصديقة التي وقفت إلى جانب سورية في مواجهة الحرب الإرهابية التي ستتولى هي عبء إعادة إعمار هذه القطاعات والمرافق واستثمارها والتوسع بعملية الاستثمار لغاياتٍ تجارية، ومن خلال ذلك يمكن للدولة أن تحصل على دعمٍ إضافي يسهم في عملية إعادة الإعمار, وتتحدد مكاسب الدولة في هذه العملية من كون الدولة لن تتحمل هي عبء إعادة الإعمار، بل تتحمله الشركات المستثمرة في هذه القطاعات، وبالتالي تتمكن الدولة من توجيه الاعتمادات المقررة لإعادة إعمار هذه القطاعات والمرافق إلى مرافق أخرى لا تستهوي شركات الاستثمار ولا تغريها للعمل فيها. كما أن الدولة يمكنها أن تحصل على عائدات من شركات الاستثمار كونها هي المالك لهذه المرافق, ويتم توظيف عائدات حصص الدولة لصالح عملية إعادة الإعمار، وبديهي أن قطاعات مثل النفط والغاز والفوسفات من شأنها أن تدر عائداتٍ كبيرة على خزينة الدولة، سيما وأن سورية الآن بأمس الحاجة لاستثمار كل ما لديها من طاقاتٍ كامنة لأن عملية إعمار ضخمة بحجم ما تعرضت له سورية من خراب لا تحتمل تأجيل استثمار الطاقات الكامنة إلى مراحل وأجيال لاحقة.

•          القروض، معروف أن الدولة السورية لم تترتب عليها قبل الحرب ديون مثل ما هو حال كل دول العالم، المتقدمة والنامية، فدول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا باتت ديونها أعلى من ناتجها القومي. سورية قبل الحرب لم تكن عليها أي ديون تذكر، وحتى بعد مرور ثمانِ سنوات من الحرب التي استهدفت الاقتصاد السوري بالدرجة الأولى لا تزال سورية غير مديونة، وإذا ما كان هناك من قروض أو تسهيلات ائتمانية حصلت عليها من بعض الدول الصديقة، فهي لا تشكل ديوناً تشبه ديون دولٍ العالم الأخرى, هذا الواقع يؤهل سورية الدولة لجعل الديون والقروض واحدة من أبرز مصادر عملية تمويل إعادة الإعمار، فهي من جهة دولة يوثق بها من قبل الدائنين لأن لديها قدرات اقتصادية متعددة ولأنها أيضاً ليست مديونة، ومن جهة أخرى تستطيع أن تستدين عشرات مليارات الدولارات لتمويل عملية إعادة الإعمار من دون أن تترك هذه أعباءً على الاقتصاد الوطني، وإذا لم تستدن الدولة السورية في مثل ظروف مرحلة إعادة الإعمار متى تستدين؟ إنها تحتاج لهذه الديون في هذه المرحلة، والديون في مثل هذه الحال هي استثمار على عكس الديون في الظروف العادية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى