إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (22) حميدي العبدالله

تتدرج وتتعقد توفّر مصادر التمويل لحربٍ مدمرة شملت كل القطاعات وكل أوجه العمران تبعاً للجاذبية العملية لكل قطاع بحد ذاته للاستثمارات، إذا توفرت البيئة الملائمة لذلك، والمقصود بالبنية الملائمة الأمن والاستقرار والتشريعات التي تسهل تدفق الاستثمار، وتقديم الرعاية الكاملة وحفظ حقوق المستثمرين.

من نافل القول إن سورية تتجه الآن نحو تحقيق الشرط الأول للبيئة الضرورية لجذب الاستثمار وتوفر مصادر لتمويل عملية إعادة الإعمار، أي الأمن والاستقرار، فغالبية المناطق السورية باتت محررة من الإرهابيين، وبعيدة عن الاعتداءات التي يمكن أن يشنوها من المواقع التي لا زالوا يتحصنون فيها, وقدرتهم على القيام بهجمات منفردة في المناطق الآمنة تؤثر على تدفق الاستثمارات الخارجية أو الداخلية، باتت محدودة، إما نظراً لتجربة سورية التاريخية في مواجهة الإرهاب ولاسيما في سنوات العقد السابع وبداية العقد الثامن من القرن الماضي، أو تجربة سورية الحالية في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المناطق التي ظلت عصيّةً على الإرهابيين على الرغم من مرابطة هؤلاء الإرهابيين في محيطها. ويمكن الاستنتاج من دون مبالغة أن المناطق التي تقع تحت سيطرة الدولة السورية باتت آمنة وهادئة أكثر من كثير من دول العالم التي لم تشهد حروباً إرهابية أو التي تعرضت لهجمات إرهابية بفعل كثافة إيواء الإرهابيين الفارين من ساحات الحروب بعد أن انفضح أمرهم، أو لم تعد الدول التي جاؤوا منها قابلة ببقائهم على أراضيها. أكثر من ذلك أن كثيراً من الظواهر السلبية التي كانت ترافق عادةً الحروب وتشكل إفرازاً من الصعب وأده مهما كانت الإجراءات الاحترازية، حيث تنتشر ظواهر التعدي على الحقوق العامة وتتراجع هيبة الدولة وقدرتها على تنفيذ القوانين، بدأت الدولة السورية بالتغلب عليها سواء من خلال عودة هيبة الدولة، أو بسبب انحسار مبررات انتشار السلاح والمسلحين، وتعدد الجهات التي تحمل السلاح، أو بسبب الإجراءات التي تعمّدت الجهات المعنية في الدولة الإقدام عليها لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب وقبل بروز هذه الإفرازات السلبية، وإذا كانت بعض هذه الإفرازات لا تزال مستمرة بشكل أو بآخر، إلا أن هناك يقظةً، من قبل الدولة وأجهزتها المعنية لخطورة استمرار هذه الإفرازات وتأثيرها على فعالية إعادة الإعمار وتحسين مستوى معيشة المواطنين، وبالتالي من المتوقع أن تتراجع هذه الظواهر في وقتٍ ليس ببعيد.

كما أن البيئة التشريعية التي تشجع على الاستثمار في عملية إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات، سواء من القطاع الخاص السوري، أو من قبل الدول والشركات الأجنبية، تتم مناقشتها على مستويات مختلفة، والأرجح أن تحدي إعادة الإعمار، وهو تحدي كبير وغير مسبوق نظراً لشمول الخراب والدمار كل جوانب الحياة العمرانية في سورية يشكل عنصر ضغط قوي على الدولة السورية، وعلى الجهات المعنية فيها من أجل إزالة أي عقبات أو عراقيل يمكنها أن تساهم في الحد من تدفق الاستثمارات السورية والأجنبية إلى سورية.

قد يحدث تقصير من هذه الجهة أو تلك من جهات الدولة المعنية، أو قد لا ترتقي جهات الدولة إلى مستوى تحدٍ غير مسبوق وتظل تعمل بعقلية وكأن سورية تواجه تحديات مماثلة لتلك التي كانت موجودة قبل الحرب الإرهابية التي شنّت عليها، وقد يعتقد بعض هذه الجهات بأن إجراءات تشبة إجراءات عقد الثمانينات كافية لاجتياز سورية لتحديات مرحلة إعادة الإعمار والتغلب على هذه التحديات، ومثل هذه العقلية لا تزال تحكم الكثير من مؤسسات الدولة المعنية بإعادة الإعمار، ولكن كل ذلك سيكون أمراً مؤقتاً ولا يمكن الاستمرار به فترة طويلة بسبب ضغط الواقع والحاجة الملحة للتغلب على مخلفات حرب لا تشبه أي أزمات أو كوارث مرت بها سورية على امتداد تاريخها.

بسبب كل ذلك فإن جهات الدولة المعنية ملزمة بتغيير مقارباتها والتخلي عن العقلية الرتيبة والروح البيروقراطية، سيما وأن القيادة تلح دائماً وتحديداً الرئيس بشار الأسد على ضرورة مقاربة كل الظواهر التي خلفتها الحرب بأسلوب غير تقليدي، واعتماد مقاربات ثورية راديكالية تأخذ بعين الاعتبار أن البلاد تحتاج إلى القطع مع العقلية التي كانت سائدة قبل الحرب، فما كان يصلح لسورية في تطورها الطبيعي، لا يصلح لسورية وهي في خضم عملية إعادة عمار تتطلب تحفيز كل القدرات الكامنة، وتعبئة كل الطاقات المتاحة، والبحث عن سبل جريئة وإبداعية للحصول على موارد قد لا تتوفر للدولة لتوفير كل مستلزمات عملية الإعمار.

لا شك أن حث القيادة وملاحقتها لجهات الدولة المعنية، وتشجيعها على إعادة النظر بأساليب عملها ومقارباتها، وعدم قبولها لأي ذرائع، ورفض أي مبررات للحفاظ على العقلية القديمة، وكذلك ضغط الواقع، والمقصود هنا حاجات إعادة الإعمار، تجعل احتمال تغيير البيئة التشريعية بما يلائم احتياجات جذب الاستثمارات لانطلاق عملية إعادة الإعمار، احتمالاً كبيراً ومرجحاً، مهما كانت الظواهر السلبية الحالية التي تدعو إلى الإحباط وتثير الشك بقدرة سورية على جذب ما تحتاجه من استثمارات لانطلاق عملية إعمار تتناسب وحجم الدمار الذي حلّ بسورية على امتداد أكثر من ثمانِ سنوات هي عمر الحرب الكونية التي شنّت على سورية والتي لم يظل سلاح تدميري لم يستخدم فيها.

لا شك أيضاً أن الفساد، بأشكاله المختلفة، يؤثر سلباً في عملية إعادة الإعمار وتشجيع الاستثمارات الخارجية والداخلية التوجه إلى القطاعات التي تحتاج إلى إعادة إعمار، وإذا كان الفساد حالةً قائمة وموجودة حتى قبل الحرب، وتفاقم بعد الحرب بسبب تغير أولويات الدولة وتراجع هيبتها وقدرتها على ملاحقة الفاسدين, ولكن مستوى احتياج سورية إلى مصادر إضافية في إعادة إعمار سورية وعدم توفر المصادر المطلوبة، وقوة الحاجة لاستثمارات السوريين والاستثمار الخارجي، سوف تضغط على جهات الدولة المعنية لخلق بيئة ملائمة تحدّ من مظاهر الفساد، وتشجع المستثمرين السوريين والأجانب على الاشتراك في عملية إعادة الإعمار، ومساندة الدولة في جهدها الكبير الذي تقوم به على هذا الصعيد، وقد بدأ منذ أن تحررت الأجزاء الواسعة من الأرض السورية من سيطرة الإرهابيين وانحسر عنها تأثير الإرهاب المزعزع للاستقرار والمهدّد بتقويض عملية إعادة الإعمار.

ربما لم تتوفر من هذه الناحية الشروط الضرورية لجذب الاستثمارات اللازمة لعملية إعادة الإعمار ولكن ضغط الظروف والتحديات ورغبة القيادة العليا في البلاد بتذليل كل العقبات والعراقيل التي تحول دون الارتقاء إلى مستوى التحديات، كل ذلك يشير إلى احتمال زوال الظواهر السلبية المتبقية التي تعيق عملية إعادة الإعمار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى