إعادة بناء سورية: الأولويات, مصادر الاستثمار, الآفاق(2) حميدي العبدالله

العوامل التي تحدّد الأولويات في إعادة الإعمار:

لاشك أن عملية إعادة الإعمار هي عملية معقدة وصعبة, سيما بالنسبة لبلد صغير مثل سورية اجتاحته حرب لا شبيه لها في كل الحروب, بما في ذلك الحروب العالمية لجهة مستوى التدمير والاستهداف المتعمد الذي طال المرافق الخدمية والمنشآت الصناعية والزراعة ومصادر إنتاج وتصنيع النفط والغاز, والبنية الأساسية.

سورية تحتاج في عملية إعادة الإعمار لبناء كل شيء من جديد, وبديهي أن ذلك يتطلب موارد مالية وبشرية كبيرة.

ثمة عوامل نابعة من واقع خصوصية الحرب التي يسميها البعض بالحرب الكونية التي شنّت على سورية هي التي تحدد وتفرض منطق الأولويات, ومن أبرز هذه العوامل:

أولاً, سعة الخراب والدمار الذي لحق بالمرافق السكنية والبنية التحتية, وفروع الاقتصاد بشكل كامل بدءاً من الزراعة, حيث كانت الأرياف مسرحاً للعمليات العسكرية بعد أن سيطرت عليها الجماعات الإرهابية, حيث تقوّضت القدرة على الإنتاج سواء في محاصيل القطن أو القمح أو الزيتون أو الفستق, أو الخضار والفواكه, وبديهي أن جزءاً من هذه المحاصيل كان يجري تصنيعها في سورية وتزوّد السوق المحلية, وجزء آخر منها مخصص للتصدير الخارجي. إن تحوّل المناطق الزراعية إلى مسرح للعمليات العسكرية, وانتشار المسلحين في البساتين والحقول, أتلف بعض الزراعات, وحال دون زراعة المزيد, وعطّل جني المحاصيل, ومنع نقلها إلى مراكز التصنيع التقليدية, هذا إذا نجت هذه المراكز هي ذاتها من أعمال التخريب.

كما أن أعمال التخريب طالت المدن الصناعية, ومن المعروف أن المدن الصناعية أقيمت في ضواحي المدن الكبرى ولم تسلم من كل المدن الصناعية التي يبلغ تعدادها بالمئات إلا القليل, مثل مدينة حسياء ومدينة عدرا, أما معامل ومدن حلب, وهي المركز الصناعي الأول, فقد تعرضت جميعها للتخريب والنهب, وتم تفكيك المعامل وبيعها من قبل المسلحين إلى تركيا وتقلص الإنتاج الصناعي إلى ما دون 30% من إجمالي عملية الإنتاج قبل شن الحرب الإرهابية على سورية.

طال التخريب أيضاً مرافق أخرى حيوية, وتحديداً حقول النفط والغاز, حيث لا تزال الحقول الأساسية حتى الآن تحت سيطرة قوات الاحتلال الأميركي في محافظتي دير الزور والحسكة, وقد تم حرق مئات الآبار النفطية والغازية, وتم تدمير المعامل والمنشآت وبلغت الخسائر في هذا القطاع بمفرده مئات مليارات الدولارات.

لم يقتصر الخراب والتخريب الذي قام به الإرهابيون على القطاعات الإنتاجية, وتحديداً الزراعة والصناعة والقطاع النفطي, بل تعداه إلى البنية الأساسية الهامة والحيوية جداً. فقد تم تخريب شبكة سكك الحديد التي كانت تغطي كل أنحاء الجغرافية السورية, وقد تم سرقة غالبية حديد هذه السكك, ولم تسلم محافظة من المحافظات السورية الأربعة عشر من عملية التخريب هذه لأن الإرهابيين انتشروا في كافة أرياف المحافظات السورية باستثناء محافظة طرطوس, التي لم تشملها أحداث التخريب إلا في الأشهر الأولى لبدء هذه الحرب على سورية.

أيضاً تعرضت الكهرباء, سواء محطات التوليد, أو محطات التحويل, أو خطوط النقل لعملية تخريب منهجية ومقصودة, وتم تدمير جزء من المحطات وتفكيك جزء آخر وبيعه إلى تركيا (محطة زيزون) ووصل التخريب مرحلة لم تسلم فيها سوى محطات قليلة من أعمال التخريب.

مرافق المياه تعرضت هي الأخرى لأعمال التخريب, بدايةً وضع الإرهابيون أيديهم على هذه المرافق واستعملوها لابتزاز الدولة والحصول منها على تنازلات, ولاحقاً جرى تعمّد تخريب هذه المرافق عندما تبين للإرهابيين بأنهم عاجزون عن الاحتفاظ بالسيطرة على المناطق التي تتواجد فيها هذه المرافق. كما تعرضت شبكة تغذية البلدات والقرى والأحياء بالمياه إلى أعمال تخريب, مثل بلدات الغوطة, وأحياء حلب الشرقية ومدينة الرقة, وأجزاء من مدينة درعا وبلداتها وقراها. وحتى السدود باتت تحت سيطرة هذه الجماعات الإرهابية مثل سدّ زيزون وسدّ الفرات وسد (17) نيسان, وكان سدّ الرستن حتى وقت قريب تحت سيطرة هذه الجماعات الإرهابية ولحق بهذه السدود الكثير من التلف لغياب الصيانة الدورية.

قطاع السياحة لحق به ضرر لا يقل عن ما لحق بالقطاعات الإنتاجية والخدمية, فكثير من المنشآت السياحية طالها التهديد مثل فنادق تدمر والمرافق السياحية في معلولا, ومدينة دير الزور ومدينة الرقة, وأحياء حلب الشرقية, ناهيك عن توقف العمل والتوسع في هذا القطاع الحيوي, بل إن منشآت سياحية كثيرة في أرياف اللاذقية تعرضت لأضرار كبيرة, وتوقفت السياحة الخارجية طيلة فترة الحرب, كما أن السياحة الداخلية تقلصت إلى مستويات غير مسبوقة.

في تاريخ الكثير من الحروب فإن الخراب والدمار الأكبر والذي لا يقل عن الخراب والدمار الذي لحق بالقطاعات الإنتاجية وقطاع النفط والغاز, هو الدمار الذي لحق بالمرافق السكنية, سواء كانت للسكن أو مقرات لشركات ومؤسسات تابعة للدولة السورية. هنا الخراب كان شاملاً وكارثياً, ذلك أن مدن كبرى مثل دير الزور والرقة تهدمت بكاملها, ومدن أخرى مثل حلب تهدم أكثر من نصفها وبلدات ومدن أخرى في حمص وريف دمشق ودرعا لحق بها ضرر كبير جداً.

دمار شامل بهذه السعة والقوة لا يمكن التغلب عليه والتخلص منه في إعادة الإعمار وتوفير متطلبات التخلص منه من دون أن تكون هناك عملية أولويات لأنه يستحيل على أي دولة في العالم مهما بلغت قدراتها وإمكاناتها توفير مستلزمات عملية إعمار شاملة وبهذه السعة دفعةً واحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى