بقلم ناصر قنديل

تحوّلات نوعية في الموقف الروسي: ناصر قنديل

منذ التموضع العسكري لروسيا في وجه الحرب على سورية نهاية شهر أيلول عام 2015 كان واضحاً لموسكو وحلفائها في محور المقاومة، أنّ ثمة تباينات على أربعة محاور تحكم التحالف العميق القائم على حماية سورية من خطر الإرهاب والتقسيم والفوضى، من منطلقات تطال المصالح والرؤى العميقة للفريقين للسياسة في المنطقة، لدرجة التشارك في اعتبار الفوز في معركة سورية قضية وجودية للفريقين، ومعها اليقين بأنّ تماسك التحالف بينهما هو ممرّ إلزامي لهذا الفوز، وانبثق عن هذا التوافق على المشتركات الوجودية والمصيرية وتحديد التباينات والتوافق على إدارتها، قرار التموضع الروسي وما تلاه من تحوّلات نجح خلالها الفريقان بإدارة ناعمة وهادئة للتباينات .

محاور التباين توزّعت حول عناوين الموقف الكردي وثقة موسكو بالقدرة على استمالة قياداته إلى مشروع الحلّ السياسي الذي ترعاه موسكو، والموقف التركي وإمكانية جذبه لشراكة في الحلّ السياسي تمنحه دوراً مميّزاً بديلاً عن رهان خاسر في الوقوف في محور الحرب. وثالث هذه المحاور هو الموقف الإسرائيلي والرهان الروسي على تحييد «إسرائيل» من حلف تخريب مشاريع الحلّ السياسي في سورية التي ترعاها روسيا، تحت عنوان أنّ روسيا بوجودها في سورية ليست إضافة لموازين قوى محور المقاومة في معركته المفتوحة مع «إسرائيل»، وأنّ بالمستطاع إدارة هذا الصراع، بعيداً عن التأثير على مشروع ضرب الإرهاب في سورية ومنع تقسيمها وإعادة العافية لمشروع الدولة فيها بضمانات روسية لـ«إسرائيل»، وضمانات موازية لمحور المقاومة. أما المحور الرابع للتباينات فيطال الموقف الأميركي ورهان روسيا على جذب واشنطن لتسوية سياسية في سورية تشكّل ربط نزاع وباباً لمسار تفاوضي أثمر الاتفاق على الملف النووي مع إيران، ويمكن له بعد حلّ سياسي في سورية أن يثمر في ملفات خلافية أخرى بين واشنطن وطهران.

خلال عامين خاض محور المقاومة مواجهاته مع هذه العناوين الأربعة بما لا يُحرج روسيا، ولا يؤذي الحلف معها، فانتظرت معركة حلب شهوراً من حرب استنزاف خاضتها تركيا، تحت عنوان الهدنة، وهي تراوغ وتمارس الخداع، حتى اقتنعت موسكو بخوض المعركة، وخاضتها بكلّ شراسة واستقامة وحزم، وتحمّل محور المقاومة استفزازات أميركية وإسرائيلية وتبلور حالة تقسيمية كردية، وهو يمارس ضبط النفس، لكن بقناعة حاسمة بثلاثة ثوابت: الأول أنّ كلفة التباين مع موسكو أغلى من مكاسب هذا التباين في هذه العناوين. ثانيها أنّ المكاسب في هذه العناوين مشكوك في بلوغها دون روسيا، وثالثها أن لا بدّ للوقائع من أن تقول في وقت ليس ببعيد، ما إذا كان رهان موسكو سيصيب. وفي هذه الحالة المهم هو «أكل العنب وليس قتل الناطور»، وإلا فإنّ موسكو ستعيد التموضع عند رؤى وسياسات جديدة.

رسم التفاهم بين محور المقاومة وروسيا على قاعدة مواصلة الحرب لتحرير الجغرافيا السورية وإبقاء الباب مفتوحاً للمبادرات الروسية، لجذب الأكراد والأتراك، وتحييد الأميركيين والإسرائيليين، دون السماح لأيّ استفزاز بأن يؤدي للانزلاق نحو مواجهة جانبية ستوقف مسار الحسم العسكري من جهة، وتُربك روسيا من جهة مقابلة، حتى جاءت وقائع الشهور الأخيرة، وقالت سواء لتحوّلات في المواقف والوقائع فرضت جديداً، أو لأنّ روسيا اكشتفت صواب قراءة محور المقاومة، أو لكليهما، لكن المهمّ أنه صار واضحاً لروسيا، أنّ أميركا حسمت خيارها بأنّ مواجهتها في الأصل مع روسيا لمنع تنامي حضورها الدولي والإقليمي، كما قالت الاستراتيجية الأميركية المعلنة، وكما قالت التصريحات والممارسات الأميركية لجهة رفع أهمية البقاء في سورية على السعي للحلّ السياسي فيها. وفي المقابل قالت الوقائع إنّ التبعية الكردية لواشنطن أكبر من أن تفكّها الإغراءات الروسية بالحلّ السياسي، وصيغ دستورية تراعي تطلعات القيادات الكردية، وأنّ مطامع تركيا باقتطاع جزء من الجغرافيا السورية يتفوّق على الرغبة بضمان الأمن القومي التركي من خطر كيان كردي، وأنّ «إسرائيل» لا تخوض في سورية معركتها فقط، بل معركة أميركا لتخريب الحلّ السياسي الذي تقوده روسيا، وأنها تحوّلت للذراع الرئيسية في حرب إضعاف مكانة روسيا.

– هذه الخلاصات التي صارت على الطاولة الروسية، رسمت الأساس لمرحلة جديدة، عنوانها تعميق التحالف بين موسكو ومحور المقاومة، ومنحه أبعاداً استراتيجية تفوق التنسيق والتعاون تحت سقف استعادة سورية عافيتها، وضمان وحدتها وسيادتها، فقد صارت الإدارة الروسية المشتركة مع محور المقاومة تنطلق من تشخيص مشترك لمحاور الاشتباك وقواعد الاشتباك. ومن هذه المعادلة الجديدة للتحالف جاء التوقيت الذي أعدّ الرئيس السوري طويلاً لملاقاته ببناء شبكات الدفاع الجوي، فكانت لحظة القرار بإسقاط الطائرة الإسرائيلية، ومثلها كانت خطوات أخرى وسيكون المزيد، الذي يجب أن يضعه الإسرائيليون والأميركيون من جهة، ضمن حساباتهم، فسياق الحسم سيتواصل في الميدان بقوة أكثر، لكن الردّ على الاستفزازات سيكون أيضاً بقوة أكبر، ولو كان الثمن مواجهة مفتوحة يخوضها محور المقاومة بدعم روسيا، ولو من الصفوف الخلفية، كما يجب على الأتراك والأكراد أخذه بالحساب من جهة أخرى، فلا جوائز ترضية لأحد، والعنوان الوحيد المتاح لتفادي الأسوأ هو بسط سلطة الدولة السورية في مناطق السيطرة التركية ومناطق السيطرة الكردية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى