بقلم ناصر قنديل

سورية : ضربة الإرباك الاستراتيجي لـ«إسرائيل»

ناصر قنديل

لا يحتاج عاقل جدّي في قراءة نوعية كيانات المنطقة وحكوماتها ودرجة تأثيرها في رسم السياسات الدولية إلى دليل ليخلص إلى الاستنتاج، أنه لو لم تكن لإسرائيل مصلحة حيوية وسيطرة تفصيلية على مجريات الحرب على سورية لما كانت الحرب. فبدون أميركا لا يمكن للرغبات والأحقاد السعودية العبث بخرائط منطقة حساسة تؤثر على التوازنات الدولية والإقليمية كلها، ومن دون أميركا لا يمكن لأحلام العثمانية الجديدة أن تفتح حرباً تجلب إليها بالتعاون مع السعودية وقطر عشرات آلاف عناصر تنظيم القاعدة، وتقلب معادلات الشرق الأوسط وقواعد الأمن فيه، ومن دون مصلحة أميركية بملء الفراغ الذي سينتج عن مغادرة العراق وأفغانستان ما كانت أميركا لتفكر بالحرب في سورية وعليها، لكن من دون أن تصير الحرب حاجة «إسرائيلية»، ومن دون أن تطمئن «إسرائيل» إلى أن التفاصيل كلها ستدار بما يحقق مفهومها لأمنها الاستراتيجي لما تحوّلت الحرب من رغبة إلى قرار .

تشكيلات المعارضة السياسية والعسكرية خضعت للتدقيق «الإسرائيلي»، وكذلك اختيار قادتها ومسؤولي تشكيلاتها القتالية، ومفاوضيها، ونموّ حضور الإسلاميين المتطرفين، وفي طليعتهم الوهابيون، جاء بضبط هؤلاء تحت السقف «الإسرائيلي»، وتقدم سعودي من التطبيع السرّي إلى التطبيع العلني مع «إسرائيل» كشرط مسبق، وخوض «إسرائيل» حرب اليمن لتدمير الصواريخ الباليستية اليمنية والتموضع في الحديدة تمّ بطلب «إسرائيلي»، وإلا لما حاز الموافقة الأميركية وانتظر الأميركيون نتائج الحرب ثلاثة شهور لتوقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني، ولمن يريد شواهد عليه التوقف أمام معاني قيام تشكيلات المعارضة بضرب منشآت الحرب الإلكترونية في سورية ومراكز التنصّت على «إسرائيل» في منطقة درعا في الأيام الأولى لما سمّوه «ثورة»، وأمام استهداف شبكات دفاع جوي منعزلة في الجبال من قبل ما يُسمّى بالمعارضة، وأمام اغتيال قادة حرب الصواريخ وصناعتها، وضباط الطيران الوافدين حديثاً من روسيا من دورات على الطائرات الجديدة، وصولاً للطبابة والحضانة اللتين منحتهما «إسرائيل» لتنظيم القاعدة ومسلّحيه والتصريحات المعلنة عن التعاون معه، والمجاهرة من رموز المعارضة بالعلاقة التحالفية مع «إسرائيل» وزياراتهم المكررة لها.

الإسناد الناري «الإسرائيلي» لمعارك منسّقة ضمن الحرب على سورية تخوضها تشكيلات الجماعات المسلحة برعاية أميركية من غرفة الموك في الأردن، وتشارك فيها السعودية والأردن، شكّل سمة ملازمة لمعارك جنوب سورية بين الجيش السوري والتشكيلات المسمّاة معارضة وفي طليعتها جبهة النصرة، وصولاً للإعلان «الإسرائيلي» عن نية إقامة حزام أمني على حدود الجولان تتولاه النصرة، أسوة بمعادلة «إسرائيل» في جنوب لبنان يوم استعصت السيطرة على كل لبنان، لكن مع سقوط مشروع السيطرة على سورية صار على «إسرائيل» التحسّب لما بعد نهاية الحرب، والإجابة عن سؤال ماذا بعد؟

يؤكد «الإسرائيليون» على مستويات القرار والتحليل كلها، أن المشهد المقبل سيتكوّن من رباعية، الانخراط الأميركي السياسي الذي بدأ من التفاهم على الملف النووي الإيراني وسيستمرّ في فكفكة الأزمات ولو متعرّجاً، والحرب على الإرهاب كبديل للحرب على سورية، بما يتماشى مع التحديات والتغييرات المحيطة بالحرب والجارية في أميركا والغرب، والحضور الروسي المكثف في سورية كقاعدة استراتيجية تحظى بالاهتمام والرعاية، ووجود قوة عسكرية سورية متماسكة اختبرت كل أنواع القتال ومخاطر الحروب، واكتسبت مناعة وصلابة بالتكامل مع تحوّل قوة حزب الله النوعية إلى قوة جديدة تتقن فنون القتال النظامي وشبه النظامي، وامتلاك خبرات القتال بالتنسيق مع سلاح الجو ومع المدرعات وتشكيلات الجيوش، وحروب المدن والأرياف، ما يجعل نشوب حرب بسبب انسداد آفاق التسوية، كارثة وجودية لـ«إسرائيل».

يعتبر الخبراء «الإسرائيليون» أن خطر مثل هذه الحرب هو الذي جعلهم عام 2010 يطلبون من الأميركيين الإسراع بالتفكير بكيفية تغيير النظام في سورية، لكنهم يقولون اليوم إن الوضع الذي سيرثونه من الحرب الفاشلة على سورية سيجعل مخاطر 2010 مجرد نزهة أمام مخاطر 2020، فروسيا باتت هنا ترسم حدود الخريطة وتشكل سقفاً لها، وإيران تضاعفت مقدراتها ولها كل يوم سلاح جديد، من الصواريخ الباليستية والدبابات والطائرات، والجيش السوري وحزب الله قوة عظمى تتنامى، وهو جيش الحروب البرية الأول في الشرق الأوسط والسير الأميركي بمفهوم الانخراط طلباً للتعاون مع روسيا في الحرب على الإرهاب سيعني شيئاً واحداً مهما طال الزمن، تعويم الدولة السورية كما عوّم التفاهم على الملف النووي الإيراني الدولة الإيرانية، عاجلاً أم آجلاً.

رسمت «إسرائيل» استراتيجيتها على قاعدة إبطاء الحركة الأميركية نحو تسوية سياسية في سورية، فأوفدت محمد بن سلمان ومن خلفه انتحاريي دمشق ليقول لواشنطن، حرب الشمال على داعش شيء قد تستدعي تحالفاتها وخصوماتها، لكن حرب الجنوب شيء آخر فهي حربكم وحربنا على النفوذ الإيراني يجب ألا تتوقف بداعي تسهيل حرب الشمال. وبالمقابل ذهب بنيامين نتنياهو إلى موسكو لاستباق الزمن الروسي الآتي، والحصول على هوامش حركة عسكرية في سورية، وفقاً لمعادلة ما لا نفعله اليوم لن نستطيع فعله غداً، ولمّا عرض نياته أمام الرئيس الروسي سمع دعوته لصرف النظر عن العبث العسكري داخل سورية، والاستثمار على معادلة أن التعامل مع دولة سيّدة عدوة تحكمه ضوابط تبقى أفضل لمفهوم الأمن الاستراتيجي من العبث بالفوضى التي تمنح أرباحاً ظرفية، لكنها تمنح القوى غير النظامية أرباحاً استراتيجية لتغيير الأوضاع لأنها لا تحتاج إلا للزمن وشرعية التحرك. وهذا ما يمنحه العبث «الإسرائيلي» جنوب سورية لحزب الله. لكن نتنياهو لم يكن يريد مفاوضة موسكو بل الاكتفاء باعتبار انه أعطاها علماً، وهذه «إسرائيل»، يكفي أن تفعل ذلك.

عاد نتنياهو وبدأت التحضيرات لضربات تستهدف حزب الله جنوب سورية، وكان لا بد من اختبار نتائج زيارة موسكو، ولمدى قدرة الجيش السوري على تكرار التعامل مع دخول طائرات «إسرائيلية» الأجواء السورية، بإطلاق صواريخ متطوّرة على هذه الطائرات، كما حدث قبل أربعة شهور، وألزم إسرائيل بتضييق هوامشها باللجوء للغارات من الأجواء اللبنانية بمدى سقفه ستون كيلومتراً، وإطلاق صواريخ من الأراضي المحتلة بالمدى ذاته تقريباً، فتزامن التوغّل «الإسرائيلي» في الأجواء السورية مع قيام الطائرات الأميركية بغارة على مواقع لتنظيم القاعدة غرب حلب، مستخدمة طائرات من قاعدة الملك خالد في السعودية، ومعلوم أن المسار فوق الأردن يستدعي إعلام «الإسرائيليين»، بعد الحصول على موافقة الروس للمرور الآمن في الأجواء السورية، والمعلوم أكثر أن التعاون الأميركي «الإسرائيلي» الأردني السعودي لا يحتاج لبراهين، فلا شيء يمنع أن تكون الغارة الأميركية قد جرى توقيتها على الساعة «الإسرائيلية»، فتستخدم الطائرات «الإسرائيلية» الممر الجوي ذاته الذي تسلكه الطائرات «الأميركية» وفي التوقيت ذاته.

المهم في الاختبار هي النتائج التي ترتّبت عليه، فالبيانات «الإسرائيلية» تكشف أن الذي سقط في قرى إربد هي بقايا صاروخ حيتس، كان يلاحق الصواريخ السورية التي استهدفت الطائرات المشاركة في الغارة، ما يؤكد أن مسار الطائرات «الإسرائيلية» كان فوق الأردن وليس فوق لبنان، والمعلن «إسرائيلياً» أن صاروخ حيتس فشل في إسقاط الصواريخ السورية التي أكملت إلى أجواء القدس وأريحا وسقطت هناك بواسطة شبكة الباتريوت الأميركية، ما يعني أن صاروخ حيتس الذي تعتمد عليه «إسرائيل» في القبة الحديدة قد أُسقط من الخدمة، وأن الصواريخ السورية وقد أطلقت من جوار حمص، ويبدو أنها كانت أربعة صواريخ، اثنان أصابا الطائرتين المغيرتين، وإثنان قاما بمطاردة طائرتي الحماية، بلغت أجواء القدس ما يعني أن مداها قارب الخمسمئة كيلومتر ما يجعلها من الأطرزة الأشدّ حداثة، وأن ما قالته «إسرائيل» تخفيفاً للذعر أنها صواريخ سام خمسة هو بنسبة معيّنة تلاعب على الكلمات فالأس أس 300 هو نوع من السام خمسة، وكذلك الأس أس 400، وهذا يعني أن ما قاله الخبراء «الإسرائيليون» على شبكات التلفزة وفي الصحافة «الإسرائيلية»، أن زمن التفوق الجوي الإسرائيلي قد انتهى هو الأهم.

الخلاصات البعيدة المدى، أن «إسرائيل» التي فقدت التفوق البري والتفوق البحري تفقد التفوق الجوي، وأن روسيا في قلب الحرب، وقبل أن تنتهي لن تمنح «إسرائيل» ضمانات التحرك في الأجواء السورية، وأن القيادة السورية لديها الإرادة ولديها القدرة على إرباك «إسرائيل» استراتيجياً وجعلها دولة عاجزة عن التفكير بحرب ولو محدودة، من دون المخاطرة بمواجهة تخرج عن السيطرة.

إسرائيل تعترف بكل ذلك، فلا بأس أن يخرج غداً بعض العرب، ومنهم سوريون ولبنانيون، يمنح «إسرائيل» قوة قاهرة في الحرب لا تدعيها، ونفوذاً سياسياً دولياً من أميركا إلى روسيا تشتهيه ولا تطاله، كما حدث بعد الهزيمة «الإسرائيلية» في حرب تموز 2006، ففؤاد السنيورة صفة وليس شخصاً.

مَن سيسأل بعد اليوم عن حق الردّ القموه حجراً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى