عش نيصا وقاتل كالبرغوث

باسل الأعرج    

استخدم عالم النفس بالدوين مصطلح “التكيف الاجتماعي” Social Accommodation في عام 1895 ويعني عنده التوازن الاجتماعي للتكيف البيولوجي كصورة من صور التوافق مع البيئة. يُعرف التكيف الاجتماعي بشكل عام بوصفه عملية اجتماعية وظيفتها تقليل أو تجنب الصراع، أو هي عملية تلاؤم اجتماعي تؤدي إلى وقف الصراع بين الجماعات، من طريق التدعيم المؤقت أو الدائم للتفاعل السلمي .

أما المضمون النفسيّ للتكيف الاجتماعي فيشير إلى السلوك الفردي أو السلوك الجماعي الذي يسعى للتوافق مع مواقف الصراع، من خلال تجنب كافة مظاهر العداء، من طريق منح تعويضات اقتصادية واجتماعية ونفسية لجماعة من جماعات الأقلية. أما التأقلم Adaptation فقد فرّق علماء الاجتماع ما بينه وما بين التكيف بحيث يتم تعريفه على أنه تلاؤم السلوك الإنسانيّ مع ظروف البيئة الطبيعية.

والتكيف يكون على عدة أشكال، من خلال القسر أو الاجبار ومن خلال التحكيم ومن خلال التسوية وأيضا من خلال القدرة على الاحتمال. في فترة لاحقة استخدم ارنست هايكل مفهوم الايكولوجيا ليشير إلى علاقة الكائن الحيّ ببيئته العضوية وغير العضوية، والايكولوجيا تهتم بدراسة العلاقات ما بين الجماعات الانسانية والبيئة المحيطة بها.

منذ متى لا أدري ولماذا أيضا لا أدري نمت علاقة غريبة بين الفلسطيني (بالمعنى الواسع ليشمل بلاد الشام وليس بالمعنى الانتدابي) وبين النيص. هل كان فعلا العداء وقتل النيص بسبب الرغبة بأكل لحمها اللذيذ وارتباطه ببعض الاساطير حول قدرته الشفائية والذكورة والفحولة التي يمنحها أم أن الأمر له علاقة بتخريب النياص لمزروعات الفلاح.

والنيص هو حيوان من الثديات ويصنف من ضمن القوارض وهو قريب من القنفذ إلا أنه أكبر حجما وله عدة أسماء، واسمه بالفصحى الشيهم واسمه العلمي Hystrix indica. يحمل على جسده أشواك طولها ما بين 10 الى 35 سم ويستخدمها في الدفاع عن نفسه ووزنه بين 4 الى 16 كيلو غرام (طعم لحمه لذيذ جدا وانصح بعدم تفويت الفرصة بتذوقه).

والنيص حيوان ليلي يعيش تحت الارض داخل جحر (طبيعي المنشأ) كبير نسبيا وله عدة مداخل ومخارج وأنفاق طويلة جداً وعلى طوال الأنفاق هناك ما يشبه استراحات. ويستخدم النيص في تنقله ودخوله وخروجه عدة طرق محددة ومعينة ويبدو كأنها مدروسة ويملك نوعاً غريباً من البارانويا أو ما نسميه فلسطينياً بالحسّ الأمنيّ (أحد أهم من درس النيص هو العالم Prater ) والأنواع الموجودة في بلادنا هي نباتية تماماً وأكثر نبات يقتات عليه هو الحنظل، لذلك ينصح بعدم استخدام الرصاص في صيده خوفا من انفجار طحاله وكبده لكي لا يصبح طعم لحمه مرا جداً.

وللنيص حضور واضح جدا في الذاكرة الشعبية الفلسطينية، كذلك في الرواية الفلسطينية، ويصف الفلسطيني النيص بأنه كائن عجيب حاك حوله الفلاحون قصصاً لا تنتهي، فهو يبكي وينوح وهو مثل البشر يرجو ويأمل وهو مثلنا إذا غضب يرمي إبره التي يحملها على ظهره وعنقه على عدوه فيصيبه وفي الليل يجوب فقط وحيداً بطيئاً متأملاً، تجذبه الروائح والثمار والجذور وهو منعزل صموت لكنه بكّاء (مع تشديد الكاف) وهو كائن وحيد متفرد ألمه عميق وحقده أعمق وصياده كذلك.

ويفيد أول درسٍ في الصيد أن عليك أن تتعلم جيداً سلوكيات الطريدة، فراقب الفلسطيني نيصه جيدا وتعلم كل شيء عنه (كنت قد خرجت في حياتي رحلتين لصيد النياص وقد وفقنا الله بصيد وافر لم نشاركه مع أحد) ولا بدّ للصياد أن يتأقلم (وليس يتكيف) مع نمط حياة وسلوكيات طريدته ليستطيع اصطياده، لكن ما حدث أن الفلسطيني تطبّع تماماً بأطباع النيص خصوصا وقت الخطر فكان أن اصبح نيصا في عيشه.

في عيد الأضحى كان أن ضحت العائلة بخمسة خراف وسمح لي بأن اذبح بعضها وأساعد في سلخها وتقطيعها، كانت الخراف مصابة بالبراغيث وقد غزتني، حاولتُ مراراً وتكراراً أن أقتل أي برغوث على جسدي لكن لم أنجح ولم يكن إلا أن أرهقت نفسي وأصابني هوس، لم يفدني إلا حمام كامل وشامل حسمت فيه المعركة مع البرغوث بأن أبدته بضربة حاسمة عبر تمشيط جسدي كاملاً بالمياه الحارة والصابون.

والبرغوث حشرة صغيرة من اللاجناحيات تنتمي لرتبة Siphonaptera متطفلة على عائل أو مضيف والذي غالبا ما يكون من الثديات، ويبلغ طوله من 1 إلى 4 ملم، يتحرك بشكل قفزات من خلال زوجين من الأرجل الخلفية الطويلة، ويلدغ البرغوث معيله لدغات تتحول إلى بقع حمراء مرتفعة قليلا ومثيرة للحكة.

يملك البرغوث استراتيجية قتالية وتكتيك وتقنيات مذهلة فهو يخز ويقفز ثم يعاود الوخز ويتجنب بذكاء شديد اليد أو القدم الساعية إلى سحقه، إنه لا يستهدف قتل خصمه (بمعنى قتل كامل منظومة العدو الكلب مثلاً) بل انهاكه والحصول على غذائه منه، وازعاجه واثارته ومنعه من الراحة واتلاف أعصابه ومعنوياته ولتحقيق ذلك لا بدّ من الزمن اللازم للتكاثر، ان ما يبدأ وكأنه عدوى موضعية سيصبح وباءً شاملاً عن طريق التكاثر وتقارب المناطق المهاجمة واندماجها.

يقول ماوتسي تونغ “عندما يتقدم العدو فاننا نتراجع، وعندما يخيم نناوش، وعندما يتعب نهاجم، وعندما يتراجع نطارده”، ويقوم تنظير ماوتسي تونغ لحرب العصابات على ما يشبه “حرب البرغوث“.

حل ماوتسي تونغ معضلة سؤال ” كيف تستطيع امة غير صناعية ان تنتصر على أمة صناعية “حيث يرى انجلز أن الامم القادرة على توفير رأس مال أكثر هي قادرة على هزيمة أعدائها، بمعنى أن القوة الاقتصادية هي التي تستطيع أن تحسم المعارك لانها قادرة على توفير رأس المال اللازم لصنع السلاح.

وكان حل ماوتسي تونغ بأن قام بالتشديد على العناصر غير المحسوسة، فالدول القوية صاحبة الجيوش النظامية تركز عادة على الأمور المحسوسة والأسلحة والشؤون الإدراية وعدد الجنود، أما ماو فقد شدد على: الزمن والمجال والارادة كما يقول كاتزنباخ، وبالعودة لقول ماوتسي تونغ سابقا فانه يتجنب المعركة متخليا عن الارض ويكون بهذا قد قايض المجال بالزمن واستعمل الزمن لخلق الارادة وذلك هو جوهر حرب العصابات.

وعلى سبيل التشابه فان العصابات تقوم بحربها تماما مثل البرغوث ويعاني العدو القوي النظامي نفس السلبيات ونقاط الضعف التي يعاني منها المضيف أو المعيل في حالة البرغوث، مساحة كبيرة للدفاع عنها، عدو شديد الصغر ومنتشر في كل مكان وسريع الحركة بحيث يصعب القبض عليه فان دامت المعركة ما يكفي من الزمن فان المضيف لا بد ان يسقط في ساحة المعركة بسبب الاجهاد وفقر الدم، دون أن يجد ما يهاجمه.

يشرح روبرت تابر الأمر على هذا النحو “ومن الناحية العملية فإن الكلب (المضيف أو المعيل) لا يموت بسبب فقر الدم بل لأنه يضعف باستمرار بسبب انتشاره اذا استعملنا المصطلحات العسكرية، وبسبب عدم شعبيته إذا استعملنا المصطلحات السياسية، وبسبب زيادة الكلفة اذا استعملنا المصطلحات الاقتصادية، وفي النهاية فإنه لا يعود قادراً على الدفاع عن نفسه، وفي هذه الفترة يكون البرغوث قد تكاثر وتحول إلى وباء بفضل مجموعة طويلة من انتصارات صغيرة استطاع فيها كل واحد أن يمتص قطرة من الدم”.

فعش نيصا وقاتل كالبرغوث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى