بقلم ناصر قنديل

ماذا عن خرائط التقسيم ومنطلقاتها مئوية سايكس بيكو – 1

ناصر قنديل

– في السادس عشر من شهر أيار 1916 أبرمت حكومتا فرنسا ممثلة بجورج بيكو وبريطانيا ممثلة بمارك سايكس الاتفاقية التي عرفت باسمَي سايكس وبيكو التي رسمت حدود الكيانات الجغرافية للدول التي نعرفها اليوم، وبعد مئة عام تُطرح جملة من الأسئلة وتظهر جملة من الحقائق.

– لم تكن اتفاقية سايكس بيكو إطاراً لتقاسم النفوذ بين البريطانيين والفرنسيين وحسب، بل كانت رسماً للكيانات السياسية والديمغرافية بطريقة، تضمن هشاشة تماسكها وتجعلها عرضة للاهتزازات، وتضعف وحدة المجموع الجغرافي الذي تناوله التقسيم والتفتيت بموجب الاتفاقية، وتؤسّس لتحوّل الكيانات الناشئة دولاً قابلة للعيش، ولكنها غير قابلة للنمو، وتملك عصباً يشدّها، لكنها تملك عصبيات تتكفل بإضعافها بتشدّدها، وتملك مصالح مشتركة تدفعها للتفاعل، لكن تتملكها مصالح يتشارك الخارج فيها بداخلها يمنع تفاعلها، فهي تعبير عما هو أبعد وأخطر من رسم خرائط حدود النفوذ الاستعماري للفرنسي والبريطاني يفقد مفعوله بزوال هذا النفوذ، وما هو أبعد من رسم خرائط الكيانات السياسية بتعسّف المسطرة والقلم، بل حساب مدروس للعناصر الاتنية والعرقية والدينية، يضمن الهشاشة إلى منع النهوض، والتماسك إلى حدّ منع السقوط.

– لم تكن اتفاقية سايكس بيكو كما هو شائع إطاراً لتقسيم البلاد العربية منعاً لوحدتها، فالاتفاقية تطال ما عرف بالهلال الخصيب أو المشرق العربي أو سورية التاريخية وسورية الطبيعية، والمنطقي أنّ تقسيم المشرق العربي سيتكفل بإصابة أيّ مشروع نهضة قومية في الصميم، سواء كانت سورية أم عربية، لكن الاتفاقية تؤكد حقيقة أنّ المشرق العربي أو سورية التاريخية والطبيعية التي تمتلك عناصر وحدة لا نقاش حولها، إذا تقسّمت تعطّلت كلّ مبادرات النهضة في سائر البلاد العربية، فهي قلب الشرق بامتداده الآسيوي والأفريقي، ووحدتها نقطة انطلاق ونهوض وتقسيمها نقطة افتراق وسقوط.

– لا يمكن الفصل بين اتفاقية سايكس بيكو وبين وعد بلفور الذي ترجم ووثق ما كان متفقاً عليه بين القوتين الاستعماريتين الفرنسية والبريطانية، رغم حدوث الوعد الرسمي بعد عام على سايكس بيكو، بصفته التتمة الضرورية لها، والصلة بين تقسيم سورية الطبيعية والتاريخية التي تشكل فلسطين قلبها، وبين إقامة كيان صهيوني غاصب لترابها فوق تراب فلسطين، صلة وجودية، فأحد ضمانات قيام الكيان الصهيوني وصموده وقدرته على البقاء هو تقسيم سورية إلى كيانات، عاجز كلّ منها بمفرده عن مقاتلته، ومنشغل كلّ منها بهمومه واهتماماته. ونشوء هذا الكيان ضمانة لحراسة التقسيم وبقائه وتوفير أسباب ديمومته، وبالعكس لا مشروع وحدة للكيانات السورية دون مقاومة المشروع الصهيوني الغاصب ولا مشروع مقاومة دون التطلع الوحدوي للكيانات السورية، وبغضّ النظر عن التفسيرات المركبة للمواقف والمواقع، سيكون سهلاً اكتشاف الصلة بين أصحاب الدعوات المعادية للوحدة ومثلها دعوات التقسيم، والكيان الصهيوني، كما الكشف عن الصلة بين التطلّع الوحدوي لقوى المقاومة والتطلع المقاوم لقوى الوحدة. ما يجري في المنطقة اليوم من ترابط بين حركة قوى المقاومة في لبنان ومداها الحيوي في حربَي سورية والعراق وتطلعها الدائم نحو فلسطين، وسقوط قوى لبنان أولاً والأردن أولاً ومثيلاتها في استسهال التطبيع مع الكيان الصهيوني وتراجع مكانة فلسطين في خطابها وسلوكها إلى حدّ الاستعداد للتحالف مع الكيان الصهيوني.

– مع حلول مئوية سايكس بيكو ولد مشروع تفتيتي جديد للمنطقة، تحمل بذوره ثلاثية تبدو منفصلة المنطلقات، ضلعها الأول فلسفة جغرافية أميركية رائدها المؤرخ برنارد لويس، تحتلّ مكانة هامة في مراكز الدراسات والتخطيط الأميركية تحت عنوان سبل استقرار مديد للشرق الأوسط، تقوم على استبدال خطوط سايكس بيكو لكيانات المشرق بخطوط تماس الديمغرافيا بين الطوائف والمذاهب والعرقيات بإخضاع المنطقة لعمليات ضمّ وفرز تنتج منها كيانات أصغر وأشدّ نقاء وتجانساً على المستوى الطائفي والعرقي. والضلع الثاني هو أطروحة أمنية «إسرائيلية» يتبناها مناصرو «إسرائيل» في الغرب ويسوّقونها كمصلحة غربية في توفير شروط أفضل لإدارة الصراعات في المنطقة بعد سقوط القدرة على إدارة التفاهمات، وذلك بإشعال حروب وفتن أهلية بين الطوائف والمذاهب تنتهي بتقسيم المنطقة إلى كيانات عنوانها الهويات الإتنية والدينية تستدعي تطهيراً عرقياً متبادلاً، سيدوم بحروب دموية لعقود طويلة يحول دون نهضة وعمران وقيام دولة حديثة، ويعود بالشعوب والمجتمعات قروناً إلى الوراء، وسيمنح «إسرائيل» والغرب فرص الاستقرار والأمن. أما الضلع الثالث فمصدره دعوة أصحاب الفكر الوهابي بمنوّعاته المختلفة لاستبدال الصيغ المدنية التي عرفتها كيانات المنطقة، رغم ما يعتريها من تشوّهات، بدولة دينية على نموذج الإمارة الإسلامية وتطهير جغرافياتها من المكونات التي لا تنسجم مع مفهومها العقائدي، وما يترتب على ذلك من تجاوز لحدود سايكس بيكو في أماكن لحساب وحدة الهوية، وسقوط جزء من جغرافية كيانات قائمة لكيانات جديدة يصعب السيطرة عليها من الإمارات الناشئة، لكنها تشبهها من حيث التكوين العرقي أو الديني أو المذهبي، من الألوان التي لا تتسع لها الإمارة أو تستثيرها بقوة الطرد.

– الواضح من الواقع العملي الذي تظهره حرب سورية الترابط الوجودي والسياسي بين المصادر الثلاثة لمشروع تقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت، فليس صعباً الوقوع على الدلائل التي تثبت الصلة بين القوى التي تجسّد مشروع الفكر الوهابي، من عاصمته الحاكمة إلى فصائله المسلحة، بالكيان الصهيوني، كقوتين متحالفتين علناً ولا يصعب أيضاً إيجاد الصلة بين «إسرائيل» والسعودية وأميركا، في الحرب التي تختبر فيها هذه المشاريع، والتي تشكل سورية ساحتها ومسرحها وعقدتها في آن واحد، فحرب سورية هي حرب سايكس بيكو واختبار البدائل، فهل يعني ذلك أنّ سايكس بيكو فشلت كإطار لحماية التجزئة من جهة، وضمان أمن «إسرائيل» من جهة أخرى؟ حتى اقتضى البحث عن البدائل؟ وهل البدائل تبدو عصية على الولادة، قاصرة عن الحياة؟ وتبدو أسباب القوة في جسد الأمة والممانعة في عصبها وأوردتها أشدّ قوة من كلّ العناصر التي حشدت للفتك بها؟ وماذا عن التفاهمات الروسية الأميركية ومكانة خطط التقسيم فيها لوراثة سايكس بيكو؟ حظوظ مشاريع التقسيم في الحياة، في حلقة الغد.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى