بقلم ناصر قنديل

المحكمة الدولية… ونصرالله… ولعبة التفجير الكبير

ناصر قنديل

– منذ أن بدأ وزير العدل حملته على الحكم السابق الصادر عن المحكمة العسكرية بحق الوزير السابق ميشال سماحة وإعلانه استقالته من منصبه الوزاري احتجاجاً بعد محاولة نقل القضية إلى المجلس العدلي، كان السؤال عن مدى قدرة ريفي على الذهاب إلى الاستقالة من دون رضى الرئيس سعد الحريري، الذي لم يتأخر حتى اعتبر موقف ريفي نوعاً من المزايدة غير المقبولة، متوعداً بنيل كلّ مجرم قصاصه العادل.

– خلال أيام قليلة من موقف ريفي خرج وزير الخارجية السعودي عادل الجبير مفسّراً لغز موقف ريفي، بالقول إنّ الدولة اللبنانية التي عاقبتها السعودية بحرمانها من هبة تسليح جيشها، كلها متَّهمة من الحكم السعودي بالتخاذل أمام حزب الله، وأنّ موقف ريفي ليس مزايدة بل خطوة في الاتجاه الصحيح. فأعلن الجبير أنّ الهبة المحظورة تستند إلى قراءة معنى الحكم بحق سماحة باعتباره علامة على خضوع الجيش الذي وصفه الجبير بالمسؤول عن المحكمة التي قال إنها تتبع له نافياً عنها كلّ استقلال، وعن قيادة الجيش كلّ استقلال أيضاً، باعتبارها خاضعة لهيمنة حزب الله الذي لا توجد في ظروف كهذه أيّ ضمانات لعدم وضعه يده على كلّ سلاح يصل ليد الجيش.

– لم يقبل رئيس الحكومة تمام سلام استقالة وزير العدل، وهذا معناه أنّ الحريري لم يطلب ذلك أو أنّ سلام والحريري تلقيا موقفاً سعودياً يحمي مكانة ريفي، ويفرض عدم السير بقبول الاستقالة، بل العكس تم العمل بمضمون الرسالة التي تحملها، وهي الذهاب إلى ترتيب تدخلات وحملات تنتج حكماً قضائياً بحق سماحة يقول العكس ويصحّح وفقاً لما قاله الجبير صورة الحكومة والجيش، والتغاضي عن كون كلام وزير خارجية دولة أخرى بحق القضاء والجيش يعدّ انتهاكاً للسيادة وتدخلاً سافراً يندر أن تصمت عنه أيّ دولة لدولة أخرى مهما كان حجم العلاقة بينهما، وها هي فرنسا تتمهّل وتنتظر موقف القضاء البلجيكي في قضية تسليم المتهمين بتفجيرات باريس، وبلجيكا تحرص على عدم ظهور أيّ تجاوب مع الطلب الفرنسي الرسمي، نوعاً من الإذعان.

– فعلاً خرج الحكم الذي يحقق رغبة الوزير ريفي وتطلعات ما ينتظره الجبير، فهل يمكن أن يشكل هذا مدخلاً لتبدّل سعودي تجاه لبنان وتسليح الجيش، خصوصاً أنّ التسريبات الأميركية كثيرة عن استغراب للخطوة السعودية وعن مراجعات تمّت مع الرياض للتراجع عنها، لكن لا مؤشرات على بوادر الرضا السعودي، مع تسريبات صحافية مصرية تقول إنّ قيمة الهبة التي كانت مخصّصة لتسليح الجيش اللبناني كانت جزءاً من الأموال السعودية التي قدّمت لمصر، وبالتزامن معها تسريبات أخرى وضعها الجبير في تصرف صحيفة مصرية هي «روز اليوسف» عن قرار اتهامي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان موجَّه ضدّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.

– جاءت مشاركة لبنان في القمة الإسلامية في اسطنبول لتقدّم فرصة لاستكشاف المدى الذي تريد بلوغه السعودية في استخدام لبنان ساحة لحرب مفتوحة أم محدودة ضدّ حزب الله، الذي تحت عنوان الحرب عليه جاءت المواقف من الحكم على سماحة، وتحت عنوان هذه الحرب جاءت حفلة التصعيد وفي قلبها حظر الهبة التسليحية للجيش. وفي هذه القمة يظنّ الكثيرون أنّ لقاء لم يتمّ يجمع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز بالرئيس تمام سلام كان سيمثل مؤشراً على تحسّن وتبدّل في الموقف السعودي وتعبيراً عن محدودية أهداف الحرب على حزب الله، بينما كانت المسودّة التي وزّعها السعوديون للبيان الختامي قد خصّصت لاتهام حزب الله بالإرهاب فقرة خاصة، سقطت كلها من النص النهائي كما سقطت الفقرات المشابهة بحق إيران، بعدما انهار ما أعدّته السعودية للقمة، ليخذلها غياب الرئيس المصري وميل تركيا وباكستان لعدم التصادم مع إيران، فيما «إسرائيل» تعتذر عن عدم تقديم النجدة الأميركية المناسبة، لأنّ واشنطن ليست في وارد التصعيد مع إيران، وحكام تل أبيب يحصون العائدات المتوقعة من هدية الجسر البري الذي سيرافق نقل جزيرتي تيران وصنافير للسيادة السعودية، ومعه تحويل حيفا إلى نافذة متوسطية بين الخليج وأوروبا.

– يأتي الترويج لقرار يصدره المدعي العام للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي توجّهت بالاتهام علناً لقادة وأعضاء في حزب الله، بتوجيه الاتهام للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ليقول إنّ مسرحاً جديداً يفتح في باب قضائي ظاهر مرة أخرى، لكنه مليء بالسياسة أكثر من الذي قبله، فالمحكمة التي لا يُخفى على أحد كيف انتقلت سياسياً من اتهام سورية إلى اتهام حزب الله، معلوم حجم تأثرها بالمواقف الغربية من جهة، ومعلوم تأثير منظومة المال على حركتها وقراراتها، كما قال الكثيرون من الذين استقالوا من مهامهم فيها.

– يبدو لبنان على موعد مع استحقاق أخطر على الصعيد السياسي بما سيصدر عن المحكمة الدولية، لا يقارن بما طلب من الحكومة فعله في الضغط لتعديل الحكم بحق سماحة الذي كانت قضيته تمريناً أولياً واختباراً لقابلية اللعب بأعصاب الحكومة اللبنانية وتطويعها، فيما يبدو أنها ستكون عرضة لضغوط أكبر بكثير لتعديل وجهة تعاملها مع اتهامات المحكمة الدولية، وبالتالي التصرف على قاعدة أنّ مَن تتّهمهم المحكمة يجب أن يتحوّلوا مطلوبين للقضاء اللبناني.

– مثل هذا الضغط إنْ تعرّضت له الحكومة، وفكّر أحد باعتباره شأناً شكلياً لا مفاعيل سياسية وعملانية له داعياً للتهوين من شأنه، يعني وضع برميل البارود اللبناني على نار حامية ستشعل كلّ شيء وتعرّض لبنان لما لا تُحمد عقباه، فالتعامل مع رمزية المقاومة لا يُقاس بالمفاعيل الإجرائية، وتسطير استنابات يُقال إنها حبر على ورق، لأنّ مجرد التفكير بالتعامل من هذا الموقع الذي ينال من طهرانية المقاومة ونقائها والانخراط بحرب تجريمها وتشويهها، وصولاً للنيل من صورة قائدها يعني دخولاً رسمياً للدولة اللبنانية في العصر الإسرائيلي، سيقلب الكثير من المقاييس والحسابات، ويعرّض الاستقرار والحكومة والاستحقاقات المقبلة لمخاطر تخرج الكثير من الأشياء من تحت السيطرة، أولها حجم ردّ الفعل الشعبي الذي سيكون فوق قدرة القيادات على ضبطه والتحكم بتردّداته، وفوق قدرة التوقعات على الإحاطة بمداه واتساعه.

– يشبه حال لبنان ما نشاهده كثيراً في أفلام الجريمة الهوليودية، عندما يكون القاتل هو فريق يقوده القاضي أو المدعي العام، ويكلّف فريقه بالقتل لتحقيق خلط أوراق كبير في قضية مالية أو سياسية متشعّبة، فيستثمر القتل للتخلص من خصم متعب غير ظاهر الخصومة أو شريك لم يعد مفيداً، بسبب ميوله للاستقلال، ويقاضي الخصوم الظاهرين بتهمة القتل، ثم يعمد لترتيب اتهامات متتالية تشوق وتشغل بحبكتها الرأي العام، لكنها تحدث خلط أوراق أكبر وتحدث دوي انفجار أكبر من الانفجار الذي شهده مسرح الجريمة الأصلي، وهذه يسمّونها بالجريمة المتسلسلة، وهي غير الجرائم المتعددة المتشابهة برمز معيّن للقاتل المتسلسل، فالقاتل هنا يرتكب جرائمه من بوابة جريمة واحدة لا تتوقف فصولها ومفاجآتها، ويتصاعد تناميها الدرامي، كلما احتاج المشهد إلى المزيد من الدخان.

– سؤال ساذج يخطر في البال، هل كان لتنظيم «القاعدة» أن ينمو وأن يُستخدم في الحرب السورية، وأن تكون البيئة مهيَّأة للفتن المذهبية لولا اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكيف تكون المفارقات أنّ الذين يوجهون الاتهامات باسم البحث عن القاتل هم الذين جاؤوا بـ«القاعدة» ومتفرّعاتها، وهم الذين حضّروا الحرب على سورية، وهم الذين استعملوا «القاعدة» في هذه الحرب، فهل كان سيكون لهم ذلك لولا جريمة الاغتيال، والمفارقة الأهمّ أنّ مَن يقاتل «القاعدة» ومتفرّعاتها ويتحاشى الاستدراج إلى مستنقع الفتنة يجري تقديمه متهماً أول في الجريمة. وبالمناسبة هل يتذكر المعنيون أنّ أول مرة سمعوا باسم «النصرة والجهاد في بلاد الشام» كانت بالإعلان عن مسؤولية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وآخر مرة سمعوا بها كانت ببيانات متزامنة صادرة عن ديفيد بترايوس الرئيس السابق للمخابرات الأميركية يقول «لا نصر على داعش بلا تعاون مع النصرة»، وموشي يعالون وزير حرب الاحتلال وبنيامين نتنياهو رئيس حكومته يقولان «إنّ النصرة مؤتمنة على أمن إسرائيل»، ورئيس فرنسا فرنسوا هولاند يدعو إلى «تأهيل النصرة كشريك محتمل في العملية السياسية في سورية»، وسعي سعودي وقطري وتركي علني لجعل «النصرة» حصان الرهان في حسم الحرب وإدارة السلم في سورية، كأنها الجائزة الموعودة منهم جميعاً على العمل الكبير الذي أدّته لحساب الشركة المساهمة في الجريمة وثمناً لحفظ أسرارها!

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى