ألف باء بقلم فاطمة طفيلي

ثقافة “ضرب المندل”

crystal ball

فاطمة طفيلي

تتزاحم وسائل الإعلام مع طالع كل عام على إفراد مساحات واسعة تزيد من خلالها نسب المشاهدة وتحجز لها مكانة في سباقات محمومة تتنافس في ما بينها لقراءة طوالعنا وما ينتظر العالم من أحداث وتغييرات، حتى ليخيل للمتابع أن حياته كلها باتت رهنا بما تتفتق عنه مخيلات العرافين والبصارين والمنجمين وقارئي الطوالع وقارئات الفنجان وما أكثرهم، وأن حياته لن تستمر اذا لم يكن قادرا على المتابعة والرصد، ولا سيما ان في الأمر تفاصيل يومية لا يمكن معرفتها بدقة في هذه العجالة.

إذا اردت ان تعرف طريقك بدقة وتتبين مسار حياتك يصبح لزاما عليك ان تحجز لك نسخة من كتاب هذا أو ذاك ممن اعتمدته هذه الوسيلة الإعلامية او تلك ممن باتوا كما الشعارات الملازمة لمحطات تفخر بتقديمهم في المناسبة أو بشكل دوري خلال العام، وتجهد في تدعيم أقوالهم بمقارنات وشواهد حول أحداث اتفق ان تناولوها او أدرجوا إشارات ولو مبهمة إليها، وهي في الواقع لا تحتاج الى الكثير من التبصر والتحليل لمطابقتها مع الواقع وأحداثه الحافلة بما يمكن الاعتماد عليه كبراهين وإثباتات ليست أكثر من مصادفات أو وليدة قراءات لا تحتاج كبير عناء لفك رموزها، حتى أطفالنا باتوا يمتلكون القدرة على تحليلها وإبداء الرأي فيها، ولديهم الكثير في هذا المجال، فكفاكم استخفافا بعقولنا ولعبا بمصائرنا، وبيننا كثر يحتاجون الى بارقة أمل تنير ظلمات حياتهم، وهم كما الغرقى الباحثين عن سبل النجاة، فلا تكونوا الموج العاتي الذي يودي بهم الى الهلاك المحتوم.

مد العرافون بفضل التلفزيونات أيديهم على كار التحليل السياسي وصاروا منافسين أشداء لنجوم “التوك شو” في التوقعات عن الأحداث والحروب والأزمات والاستحقاقات، وبات الترويج للمنجمين كما لو كان إعلانا عن حوار مع عالم استراتيجي وباحث خبير في العلاقات الدولية او دبلوماسي كبير في دولة عظمى يعرف خفايا الوقائع الكونية السياسية والعسكرية والاقتصادية … ويا ليل يا عين على تحليلات لا يعرف أصحابها صياغة جملة مفيدة غير مكسرة او مجعلكة…

مدهش هذا الجهد المبتذل وغير المهني الذي تبذله الوسائل السمعية البصرية لتعليل ما تسوّق له من تنبؤات، ومريب هذ التركيز على عناوين لأحداث يتناولها عرافوها، ومبهرة تلك القدرات اللامحدودة على الإحاطة بما يجري على الكرة الأرضية لأناس لا يكادون يتقنون حتى اللغة التي بها يتحدثون، فأنى لهم هذه الإلهامات الغزيرة التي تجعلهم يعرفون في كل شيء من مشرق الأرض الى مغربها، ولو قدر لهم لحلوا مشاكل الكون كاملة بجلسة واحدة، لكن “تواضعهم” يمنعهم بداعي الخوف من الخذلان واللامبالاة، حقا صدق من قال “إن لله في خلقه شؤون” وهم لا يتورعون عن الخوض في مواضيع يعجز عن النصحح فيها الجهابذة المتخصصون.  

الإعلام كما الإعلان ينحوان الى المزيد من التضليل والخداع ان لم نقل التلاعب بعقول البشر ومصائرهم، وهم وفق التقارير المعدة بعناية قادرون على قراءة الغيب واستبيان المخاطر والتنبؤ بها قبل حدوثها والعاقبة للمتخلفين عن الركب.

الإعلام بات الشريك الاساسي في صناعة الحدث وتوجيهه وحتى الغوص في تفاصيل حبكاته وخلفياته ومؤدياته، فيما القواعد تفترض أن وظيفته هي نقل الخبر والبحث عن الحقائق من أجل الفائدة، لكنهم يبحثون عن ربح رخيص تجلبه الإثارة في كل شيء، ويفتشون عن استقطاب جمهور العقول المسطحة التي يعشش فيها التخلف بجميع مصنفاته وغرائزه، فقد بنوا مجدهم على تأصيل التخلف وتعميمه بعيدا عن أي منطق علمي أو حضاري.

في زمن الرداءة والرخص والهرطقة والتكفير باتت البضاعة الرائجة هي ثقافة ضرب المندل… وكل عام وانتم بخير و”انخلي يا ليلى “.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى