بقلم ناصر قنديل

جريمة الجميزة: الأمن في لبنان سياسة وتسييس

nasser

ناصر قنديل

– شهد لبنان جريمة مروّعة قبل أيام سقط فيها المواطن جورج الريف مضرجاً بدمه في وضح النهار في العاصمة بيروت، أمام أعين الناس من حرّاس الأسواق التجارية والمارّة وسائقي السيارات التي توقف من فيها للحظة يلقي نظرة على ما يحدث ويتابع السير. وفشلت القوى الأمنية التي تلقت نداء الاستغاثة من زوجة المغدور في الوصول في الوقت المناسب والتدخل لمنع وقوع الجريمة. وما زاد في حجم الصدى الكبير الذي تركته الحادثة أنّ القاتل معروف بسوابقه، وقد دخل السجن مرات عدة وأفرج عنه بتدخلات ومنع محاكمة وذريعة غياب الأدلة، خصوصاً يوم اقتحامه مكاناً عاماً وإردائه لضحية أخرى أمام أعين الناس، كما تنقل الروايات على صفحات التواصل ووسائل الإعلام، والإجماع على أنّ القاتل يحظى بحماية جهات نافذة ويرافق شخصية لها مكانة ورعاية تسمح لها بالتدخل.

– فتحت الحادثة نقاشاً متشعّباً، وشكلت باباً لحملات إعلامية وسياسية محورها الملف الأمني وتداخله مع التسييس من جهة، والسياسة من جهة أخرى. ولم يكن خافياً دخول البرمجة على الخط في بعض الحملات الموجهة التي أرادت الاستئثار بتعليقات الرأي العام وتوجيهه نحو فهم محدّد وموقف معيّن، كترجمة لحصيلة الغضب الذي اجتاح كلّ شرائح اللبنانيين. فالحادثة كشفت حقيقتين فاضحتين وفتحت نقاشين جديّين، الفضيحة الأولى هي السبب التافه كمثل أفضلية المرور والملاسنة الناتجة منها لارتكاب إنسان جريمة قتل إنسان آخر، والفضيحة الموازية هي نسبة السلبية التي تصرّف من خلالها الذين شهدوا الجريمة وأظهرتهم أشرطة الفيديو المتداولة يجيئون ويذهبون من دون أن يقوم أحد منهم بقول كلمة أو التدخل لفضّ بين القاتل وضحيته ومحاولة إبعاد القاتل عن الضحية. أما النقاشان فهما حول تقييم الحالة الأمنية في لبنان، وحول تفسير الفضيحتين، أيّ استسهال القتل من جهة وسلبية الرأي العام من جهة مقابلة.

– يختلط تقييم الحالة الأمنية بالتفسير المنتظر لتخلي الرأي العام واستسهال القتل، فبدا واضحاً أنّ هناك من يريد أن يقول إنّ الوضع في لبنان دخل مرحلة الفشل الأمني، وأن ينفخ في بوقه هذا حتى يصل إلى شيء ما بعده قوامه أنّ هذا التدهور المريع أمنياً يعود لسببين هما انتشار السلاح والمحسوبيات. والظاهرتان موجودتان فعلاً في لبنان ووطأ كلّ منهما أقسى من الأخرى على اللبنانيين. لكن ما مدى صلة كلّ منهما في تفسير ما جرى وفي تقييم الحالة الأمنية، خصوصاً أن الشق المتصل بالمحسوبية صحيح في توفيره شعوراً بالحماية للقاتل، طالما سبق وحظي بهذه الحماية في حالات مشابهة، وكذلك ذعر الناس وتهرّبهم من التدخل في شق منه يتصل بشعورهم الضمني أن التجرّؤ على القتل أو الشروع فيه، لا يملكه إلا من يشعر بالحماية ويحظى بها فيتفادون التدخل والتورّط كي لا يكونوا من الضحايا الذين جلبوا الشرور على أنفسهم.

– من الزاوية العلمية لشروط توصيف عمل إعلامي بالبروباغندا، ليس التزوير والافتعال والكذب بالمطلق هي شروط البروباغندا أيّ الحملة المبرمجة، بل الذكاء في تولي متابعة وتفسير حدث له دويّ كبير وصاعق للرأي العام، مثير للاشمئزاز والقلق والذعر، كالجريمة المروّعة وظروفها المتداخلة مشهدياً في صناعة أعلى درجات الجاهزية لدى الرأي العام للتلقي، وتحويل الغضب والقلق والذعر إلى أسئلة منطقية في المحاججة، يتشارك فيها الجميع، مثل لماذا تخدّر الرأي العام عن التدخل؟ ولماذا لم تصل القوى الأمنية في الوقت المناسب؟ ولماذا تجرأ القاتل على فعلته في وضح النهار ولسبب تافه؟ والسير في المحاججة تصاعدياً لبلوغ نتيجة درامية مزيّفة مثل «لبنان بلد فاشل أمنياً»، والزجّ بين مجموع الأسباب المنطقية الصحيحة بسبب مزوّر مثل الإيحاء بالسلاح كمفهوم أنه السبب، والقصد هنا السلاح كمفهوم وليس كأداة للقتل. فما يمكن استخدامه عادة في القتل هو السلاح الفردي الذي لم يكن في يوم غائباً عن أيدي اللبنانيين، بينما صار الإيحاء لسلاح بعينه جرى تناوله كرمز صارت توحي به كلمة السلاح وهو سلاح المقاومة في اللاوعي الجمعي للمتلقين، فقيل، الدولة ضعيفة لأنّ هناك من ينازعها السلطة بسبب امتلاكه السلاح، والدولة عاجزة لأنّ هناك جزراً أمنية محظورة على الدولة، والدولة لا يمكن أن تملك الثقة بنفسها ولا لرجالها أن يتجرّأوا وهم يرون فريقاً من اللبنانيين يصادر قرار السلم والحرب وهو قرار الدولة وحدها سواء في وجه «إسرائيل» أو الإرهاب.

– هذا كله جرى الزجّ به تباعاً في لحظة درامية مؤثرة حتى كدنا نظن أنّ الجريمة جرى ارتكابها بصاروخ زلزال، وغاب عن المتلقي للحملة المبرمجة أيّ البروباغندا أنّ الجريمة ارتكبت بسكين، وغاب عن المحللين النفسيين الذين شاركوا في التحليل والتفسير، كيف يعود القتل بالسكين ظاهرة في زمن انتشار السلاح، وصلة ذلك بما يدور حولنا في زمن الترويج الإعلامي للذبح والحقبة التي افتتحتها «جبهة النصرة» وطوّرها تنظيم «داعش» حتى صار ماركة مسجلة. وفيما كان هذا هو السؤال الطبيعي توجيهه لكلّ محلل نفسي وباحث، هل عاد السكين على رغم انتشار السلاح أداة للجريمة في زمن فيديوات داعش؟ لم نسمع السؤال على الإطلاق، بل سمعنا ضجيجاً عن السلاح، حتى صار توجيه الحملة على الحماية السياسية في غير اتجاهها الحقيقي وجرى بصورة مخالفة للأصول والأعراف الإعلامية المهنية التغاضي المبرمج لتمرير ذكر من يعرف اللبنانيون درجة انضباطيتهم وأخلاقياتهم كمثال للارتكاب، في شكل نافر ومفتعل، بينما جرى احترام مبدأ عدم ذكر الأسماء لتغييب النافذين الذين يتدخلون مع القضاء لتوفير الحماية للقتلة ومنهم الجاني في هذه الجريمة. ومعلوم هنا في الجريمة المعنية أننا نتحدّث عمّن لا صلة لهم لا بالمقاومة ولا بسلاحها وسقفهم السياسي يصف المقاومة ومعادلاتها بالخشبية.

– الحقيقة أنّ الجريمة مروعة، وأنّ تخلي الناس عن التدخل مخجل، وأنّ تأخر القوى الأمنية مؤلم، وأنّ الحمايات التي يقدّمها النافذون بالمال أو بالسياسة لتعطيل آلة القضاء مقرف ويدعو للاشمئزاز، لكن الحقيقة أنّ الجريمة ارتكبت بسكين في زمن الذبح والرعب من الدم، حتى درجة تجمّدت الدماء ومعها النخوة في عروق اللبنانيين، وأنّ النافذين الذي يحمون القاتل من معسكر يعادي سلاح المقاومة ويتحدّثون صبحاً ومساءً عن الدعوة إلى نزع السلاح، والحقيقة أنّ الأمن في لبنان قياساً بالدول الكبرى مثل أميركا وبريطانيا التي تحفل صحافتها بأحداث لا تقارن بترويع جريمة الجميزة كالحادث العنصري الذي تعرّض له زنجي في بريطانيا ومقتل الطلاب والأساتذة بإطلاق نار بدم بارد يتكرّر كلّ فترة في أميركا، وفي منطقة كمنطقتنا من القاهرة إلى تونس إلى دمشق وبغداد والرياض حيث القتل العبثي كلّ يوم، ويعلم المتحدثون من الإعلاميين والخبراء أنّ لبنان وفقاً لمعدلات الجريمة يقع في مرتبة متقدّمة بين بلدان العالم الأكثر أمناً، ويتقدّم على رغم كلّ شيء مكانة على العديد من دول العالم الغربي، وما كان لائقاً أن يفوت المتابعين من الإعلاميين والسياسيين القول إنّ القوى الأمنية يمكن ويجوز ويجب انتقادها في ألف قضية وقضية. ولكن في توفير بيئة آمنة في ظلّ ظروف معقدة وغاية في التأثر بمحيط متفجر وفي حال الغليان، فالقوى الأمنية والقضائية تستحق التحية، على رغم الدعوة إلى فتح تحقيق جدي في سبب التأخر عن نجدة المغدور، وفي كيفية الإفراج المخجل التي حازها القاتل مراراً. والحقيقة التي فاتت الكثيرين ظلماً أنّ سلاح المقاومة أحد مصادر قوة الأمن الذي يتزعزع باجتياح الإرهاب لعواصم المنطقة والعالم، ويقف سلاح المقاومة ودماء شهدائها جنباً إلى جنب مع القوى العسكرية والأمنية سداً في وجه تمكنهم من لبنان.

– نقطة الإجماع التي لا نقاش فيها هي الدعوة والإصرار كي ينال الجاني أقصى العقوبات.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى