بقلم ناصر قنديل

نبيه بري: بين زرقاء اليمامة وابن سينا

nasser

ناصر قنديل

– ليس إنجازاً عادياً لشخص امتهن الخصومات لحساب مواقف وقناعات وخيارات، طوال نصف قرن، أن يصير في تفكير الخصوم قبل الأصدقاء، جسر العبور إلى الحلول، فيكسب بصورة مترادفة مع صفته كخصم أو صديق صفته كخشبة خلاص في اللاوعي الجمعي للأفرقاء المحليين والإقليميين والدوليين، المعنيين جدياً بعمق المكانة التي يمثلها لبنان لهم في مسرح الشرق الأوسط.

– رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري، هو هذا الشخص الذي لا يقصده الموفدون لأنّ موقعه البروتوكولي يستدعي أن يمرّوا لزيارته في كلّ رحلة إلى لبنان، وهو كذلك، ولا لأنّ مكانته في طائفته التي تشكل لاعباً لا يمكن تجاهله على المسرح اللبناني والإقليمي تستدعي الوقوف على رأيه واستكشاف حدود الممكن مع هذه الطائفة، عبر الكلام السهل لهذا الرجل الذي لا يقلّ صعوبة عن طائفته، وهو كذلك، ولا لأنّ القضية المحورية التي تختصر الأزمة اللبنانية كما تختصر الحلّ في لبنان هي رئاسة الجمهورية، التي يشكل المجلس النيابي خشبة المسرح والستارة لها، وتمسك رئاسته بالإضاءة والإخراج، وهو كذلك.

– ليس إنجازاً عادياً أن يكون الرجل كذلك، وعلى رغم كلّ ذلك يطمح الأصدقاء والخصوم إلى ما هو أكثر من ذلك منه ومعه، فيعترف الخصوم والأصدقاء بأنهم إن لم يخترقوا دفاعاته الأمامية، ويغوصوا في أعمق من هذه الاعتبارات معه، فقد فشلوا، لأنّ الأهمّ والجاذب في هذا الرجل أنه يملك قدرة استشراف نادرة، لا يسهل تعلّمها في كتاب، ولا يغويها مديح وثناء عن لواقط الريح، والهوائيات، فهي سرّه وحده عندما يضع سبابته اليمين فوق طرف أنفه ويمرّرها بسرعة، ويشرح تقديراً لموقف أو توقّع، ومنها يستوحي خلطة سحرية عجيبة، لا يمكن اكتساب سرّها بعلم أو خبرة أو وصفة، يأتيه الخصوم والأصدقاء والقريب والبعيد، ليلتقطوا بعضاً من استشرافه ويحرضوا بعضاً من خلطاته ووصفاته، علهم يسمعون.

– ليس إنجازاً عادياً أن يكون الرجل كذلك ويذيع صيته خارج بلده أكثر منه فيه، ويحدثك عنه الأبعدون كشبكة أمان يأنسون إلى وجودها، ولا يستطيعون وهم يصنفونه بالعناد في حماية ما ومَن يمثل، إلا وصفه بالوسطي الذي استعصى على الرئيس ميشال سليمان اكتشاف وسطيته واعتداله ليكون مرجعه في الملمات والأزمات فيجنّب لبنان ونفسه ما ارتكبه من معاص وما جلبه من مطبات، فيقول الفرنسي ما يقول الإيراني وما يردّده السعودي، لديكم نبيه بري فلا تقلقوا على لبنان، عندما يحين وقت الحلول سيخرج من أكمامه على طريقة السحرة أرنباً أو حمامة بيضاء، وسيكون نصيب جماعته محفوظاً في الحلّ لكن نصيب الآخرين سيكون محفوظاً أكثر، فليس في لبنان لاعب محوري مثله يستطيع على رغم وقوفه في قلب الملعب وبين الكرات المتطايرة أن يتقمّص شخصيات ومصالح وتطلعات الجميع، ليقيم معادلة التوازن الصعب بينها، المعادلة التي لا يقوى غيره على صناعتها وتسويقها في آن.

– يراهن الرئيس نبيه بري على حوار تيار المستقبل وحزب الله كثيراً، أكثر مما يراه سواه، وليس مردّ الرهان وهْم وصول الحوار إلى المكان الصعب والبدء بالتداول في أسماء مرشحي الرئاسة، بل لأنّ هذا الحوار قد مرّ في آلات الفحص والاختبار التي يتقن بري استخدامها للتحقق من أنه حاجة ورغبة لدى اللاعبين الإقليميين اللذين يختصران المشكلة والحلّ في لبنان، السعودية وإيران، ولأنّ الحوار يحظى بهذه المكانة الإقليمية، في توقيت يبدو الاختراق في الجدار السميك للأزمات العالقة بين اللاعبين الكبيرين إقليمياً مطلوباً وصعباً، يراهن بري على جعل الحوار منصة حاملة لبذار التلقيح الذي يستخدم الرياح المؤاتية بين أشجار البلح المذكرة والمؤنثة، في الصحراء، فالجاهزية اللبنانية هي إغراء وإغواء للإقليمي الصعب بإمكانية تحقيق الإنجاز والتقدم نحو اختراق صعب ومطلوب ويجعله اللبنانيون ممكناً، وبمثل تفاؤل بري بهذا الحوار الذي بذل له الكثير ولا يزال، تفاؤل بتشكيل شبكة أمان وطني صارت برأيه متوافرة أكثر من أي وقت مضى بوجه مخاطر التشنجات المذهبية، والانزلاق إلى التوترات الأمنية وخطر تقديم البيئة الحاضنة للإرهاب على إيقاعهما.

– يقف بري اليوم عند حدود الاستشراف، ولا يتقدم نحو الخلطة والوصفة قيد أنملة، فليس هذا وقت التفكير، فكيف بالتعبير، وهو هنا يكشف بوضوح تفهّمه لعناد العماد ميشال عون الرئاسي، بصفته حقاً مشروعاً، على رغم المأزق الانتخابي الذي يعيشه لبنان، ويقول طالما لم يحن التوقيت فلماذا يتبرّم البعض من موقف الجنرال، فلا يستحي أوان من أوانه، المهم أننا نعبر الجسر إيجاباً، والأهمّ أنّ الخارج المعنيّ مباشرة متفهّم وراغب وربما محتاج، ومهمّتنا أن نجعله يرانا فرصته للإنجاز.

– في تاريخ العرب رجل وامرأة يحب الرئيس بري سيرتهما، الطبيب أبو علي ابن سينا، الذي لم يكن في وصفاته ما يمكن تكراره، كمثل علاجه لنزيف معوي لأحد الأمراء بعد رحلة صيد، فبدلاً من الكشف عليه طلب الكشف على مسار رحلة صيده، وجاء بحفنة من أعشاب البحيرة التي شرب منها وبقي يطعمه منها حتى أخرج منه العلق الذي يمص دمه بعدما تعمشق على أمعائه بدلاً من أعشاب البحيرة، فاكتشاف الداء نصف الدواء، وأبو علي ابن سينا هو الذي طبّب أميراً عليلاً بسرد أسماء القرى المجاورة على مسمعه وهو يجسّ نبضه، ولما وصل إلى ارتفاع النبض عند ذكر قرية بعينها، أخذ يعيد، ولما تحقق أخذ يذكر على مسامعه حكايات فيها أسماء عائلات هذه القرية فسمع نبضه يرتفع عند ذكر تكرار عائلة بعينها، ولما عاد يكرّر جسّ النبض وهو يذكر أسماء إناث محبّبة عند العرب وجد النبض يعلو ويكرّر فيعلو أكثر، فذهب إلى الملك وقال ابنك مريض بالعشق، زوّجه من فلانة بنت فلان في القرية الفلانية يشفى.

– في سير العرب رجل وامرأة يحب بري سيرتهما، الرجل هو أبو علي ابن سينا، أما الامرأة فهي زرقاء اليمامة، التي قيل إنها كانت تبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وترى الرجل على مسافة سفر ثلاثة أيام، وأنها كانت صمام أمان قومها من الغزوات، حتى جاءهم غزو بخدعة قيام الغزاة بقصّ الشجر والاختفاء وراءه والتسلل، والشجر المحمول على ظهور الرجال يظلل حركتهم وسلاحهم وهم يتقدمون، وهي تصرخ لقومها أرى شجراً يمشي وهم لا يصدقون حتى وقعت الغزوة وخسروا، وبري الممتنع عن وصفة أبي علي ابن سينا لأوانها، واثق من أنّ قومه يصدقونه عندما يقول لهم إنه يرى شجراً يمشي، ولذلك يفوزون، واليوم لا شجر يمشي ولا من يحزنون.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى