بقلم ناصر قنديل

«2014 – 2015» الانتقال من الحرب إلى السياسة – 1 –

nasser

ناصر قنديل

منذ أربع سنوات والنقاش الدائر حول سورية تخطى مرحلة الحديث عن ماهية الحرب فيها وحولها وعليها، حيث لم يعد يفيد في شيء البحث في المنشأ بين من يقول إنها ثورة تحوّلت حرباً خارجية، أو هي حرب خارجية تقنعت ببعض مظاهر الاحتجاج لتبرير مساراتها، فقد صار العامل الخارجي هو الأصل والباقي تفاصيل، وفقدت المعارضة عذريتها الديمقراطية والمدنية المدّعاة، بعدما صارت تجاهر بطلب التدخل العسكري الغربي، وتنادي بالعلاقة مع «إسرائيل»، وتحاضر في العفة الديمقراطية وهي في حضن حكام السعودية وقطر، وتتحدث عن السلمية والمدنية ورايات «القاعدة» ترفرف فوق رؤوس الضحايا، فالحرب صارت حرباً مكشوفة لتغيير العامل الجيوسياسي الذي تمثله سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد وخياراته في منطقة هي الأهمّ في العالم، فالاستحواذ على سورية يعني ربط تركيا بـ«إسرائيل» وكسر ظهر المقاومة وفصلها عن إيران، ومنع الصين وروسيا من بلوغ البحر المتوسط، والسيطرة على سوق النفط والغاز عبر الأنبوب القطري إلى أوروبا وقطع الطريق على السوقين الإيرانية والروسية من التوسع، ويعني أولاً وأخيراً تمدّد مملكة «الإخوان المسلمين» التي سقطت بيدها مصر وتونس كلياً وليبيا واليمن جزئياً، لتصير إمبراطورية بني عثمان تحكم العالم الإسلامي من أنقرة.

صار النقاش حول نهاية قريبة للحرب، من طرفين متقابلين في قراءة الأحداث، طرف يساند سورية وطرف يتبنى ويروج لإسقاطها، يتموضع كل منهما عند تحليل وقراءة قوامهما وجود عناصر حاسمة لنهاية قريبة للحرب، تحسمها لمصلحة الفريق الذي ينتمي إليه، وبالمقابل قراءتان متقابلتان تلتقيان على أن الحرب فتحت ولن تغلق، وينتمي أصحابها إلى ضفتي الصراع المتواجهتين، ويتأسس التوقع على صعوبة النصر الحاسم من جهة، وعلى ميل لترجيح كفة الفوضى وخروج الحرب عن السيطرة، خصوصاً مع ظهور مكونات «القاعدة» على المسرح وتبلور مشروع «داعش».

كنت منذ بدايات الأزمة أتمسك بقراءتي الخاصة التي تقول إنه نظراً لأهمية سورية فالحرب لن تنتهي قبل استنفاد آخر خرطوشة بيد أعدائها من جهة، وقبل بلوغ الحد النهائي لاختبار الفرص والخيارات وهو نهاية العام 2014 موعد الخروج الأميركي من أفغانستان، من جهة أخرى.

كانت واشنطن قد أمضت بعد نهاية الإتحاد السوفياتي ولايتين متتاليتين لبيل كلينتون وهي تهضم ما تبقى من أوروبا الشرقية، وتتوسع إلى حدود روسيا وتتخطى الشراكة مع أوروبا القديمة كما وصفها دونالد رامسفيلد الذي صار وزيراً للدفاع في عهد جورج بوش الابن لاحقاً، وذهبت واشنطن لولايتي جورج بوش نفسه لتحسم زعامتها على العالم من آسيا، وهي آسيا التي تشكل ثلاثة أرباع العالم في عدد السكان والمساحة المأهولة، والثروات الطبيعية، والقدرة الإنتاجية، والقوة العسكرية، والنفط المتدفق إلى العالم، فكانت الحروب المستوحاة من حسم حرب يوغوسلافيا في كل من العراق وأفغانستان، والهدف منع تواصل روسيا والصين وإيران، وحصار كل منها بالقوة الأميركية المباشرة وصولاً إلى فرض دفتر شروط يحسم الزعامة الأميركية لقرن مقبل كما قالت وثائق المحافظين الجدد الذين قادوا تلك المرحلة، وكانت الاختبارات الرئيسية لنتائج الحربين في سورية وإيران.

ظهرت حدود القوة في صناعة السياسة مع حروب أميركا في آسيا، وتوجتها الهزيمة «الإسرائيلية» في عام 2006 في لبنان، وسقط الرهان على مقايضة حكم إيراني يخرج من قضية فلسطين بمنحه الميزات الإمبراطورية عام 2008 مع فوز الرئيس أحمدي نجاد مرة ثانية، وسقطت محاولة إخراج حلف المقاومة من فلسطين في حرب غزة عام 2008-2009، وفشل رهان هيلاري كلينتون على سلام فلسطيني – «إسرائيلي» بثمن يتحمله الطرفان، ويفتح الباب لحلف «إسرائيلي» – عربي بوجه إيران يعزل قوى المقاومة، وانتصر التطرف على العقلانية «إسرائيلياً»، فكان الرهان الأخير على إسقاط سورية وحشدت للحرب بصفتها أم الحروب وآخر الحروب كل وسائل النصر من مال وسلاح وتحالفات وأوهام وأحلام ومحرمات ومغامرات ومقامرات ومؤامرات.

معادلة حدود القوة في صناعة السياسة هي العامل الحاسم بالانتقال الأميركي بعد حرب تموز 2006 إلى مرحلة جديدة سقفها 2014 كموعد رسم من حينه للانسحاب الأميركي من البر الآسيوي، إلى الممرات المائية والمحيطات، ورسم سقف ثان للعودة للتدخل العسكري هو 2022، وقد حسم أركان الجيوش الأميركية والنخب الفكرية الأميركية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي هذه السقوف بعقل بارد، جرت صياغته في رسالة أميرالات الحرب السبعة عشر نهاية عام 2007 للرئيس بوش عندما لوح بالحرب على إيران وما تضمنته الرسالة أقرب لإعلان التمرد، كما جرت الصياغة الأدق في تقرير لجنة العراق التي شكلها الكونغرس عام 2006 وعرفت توصياتها بتقرير بايكر هاملتون نسبة لرئيسيها الديمقراطي لي هاملتون والجمهوري جيمس بيكر، والتي رسمت إستراتيجية للخروج من الحرب إلى السياسة على قاعدة الإقرار بأن للقوة حدوداً، وأن العالم يعود لمعادلات القرن الثامن عشر حيث القوى الإقليمية قوى عظمى في مداها الحيوي.

تكشف وقائع ما بعد رسالة العسكر وصدور التقرير، أن السقوف التي رسمت للسياسة الأميركية الجديدة، قد شكلت موضوع انقلاب أبيض قاده العسكر وأوصلوا بموجبه باراك أوباما إلى البيت الأبيض، ومحورها ست سنوات للحرب الذكية أو الحرب الناعمة، لا محرمات فيها لتحقيق السيطرة إلا الذهاب للحرب العسكرية المباشرة مرة أخرى، شرط الإنجاز قبل عام 2014، وفي حال الفشل، العودة لبايكر هاملتون، لصياغة شرق أوسط جديد، يضمن المصالح الأميركية عبر الانخراط مع القوى الصاعدة في العالم والمنطقة، ولا ينشئ فراغاً إستراتيجياً بمغادرة الجيوش الأميركية للبر الآسيوي يملؤه خصوم واشنطن، خصوصاً روسيا والصين وإيران التي سيجمعها البر الأفغاني ما بعد الخروج الأميركي.

خيار الحرب لا يناسب أميركا أمر حسم في عام 2006، وخيار الفوضى والتقسيم والحروب الأهلية لا يناسبها أمر حسم في عام 2010، في قمة الناتو في فرانكفورت، عندما تبين أن النتيجة ستكون نمو التطرف في البيئة الإسلامية، وأن التقسيم سينشئ كيانات تابعة لإيران في ساحل المتوسط من حدود فلسطين إلى حدود اليونان وعلى ضفتي الخليج، ويمنح إيران مكانة إمبراطورية تتحكم بأمن أوروبا عبر المتوسط من جهة وبسوق النفط عبر عشرين مليون برميل نفط تخرج من مضيق هرمو كل يوم ستكون ملكاً لدويلات مساندة لإيران من موقع هويتها المذهبية، من جهة أخرى.

المعادلة صارت واضحة، فلتفتح أبواب جهنم على المنطقة، وتسقط كل المحرمات، دونما المخاطرة بالتقسيم، والحرب الشاملة، وما بينهما فليحلم القطري بالزعامة والتركي بالسلطنة والسعودي بالانتقام، «الإسرائيلي» بشراء الوقت، وليكن لـ«القاعدة» دور وللمال أدوار وللاستخبارات ولكل الموبقات، لكن في نهاية المطاف إما أن تسقط سورية كاملة في القبضة الأميركية، أو أن تحل نهاية عام 2014 ويصير أوان الترجل عن حصان الحروب قد حان ولا بد من العودة ولو تدريجاً ولو بخفر إلى توصيات بايكر هاملتون.

حلقة الغد عن بايكر هاملتون والعودة إلى السياسة ولكن على صفيح حروب صغيرة.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى