ألف باء بقلم فاطمة طفيلي

الرحيل المدوي…

sabah

فاطمة طفيلي

الأربعاء الخميس والجمعة 26 ، 27 و 28 تشرين الثاني… أيام ثلاث وكأنها حلقات متتالية من مسلسل الرحيل المنظّم لكبار أرهقتهم سنوات الانتظار، فقرروا المغادرة بصمت ملأ صخبه الآفاق، كانت المبادرة فيه للشحرورة، وقد اختارت اللحظة والوقت، وكأني بها ذاك الحلم الجميل الذي رافق أيامنا وليالينا، ينسل في غفلة منا تاركا مدى الرؤية، مطمئنا الى مكانته الخالدة في الوجدان والذاكرة.

ومثلها فعلت نهوند، لكنها اختارت منطقة الوسط بين رحيل وآخر، فيما آثر العقل الانضمام الى الركب مختارا سعيدا برفقة الدرب الى حيث المستقر والراحة.

ثلاثة يعجز التعبير عن إيفائهم حق قدرهم، وتضيق الصفحات عن الاستيعاب، إلا أن الكبار تخلدهم أعمالهم وما تركوه من مآثر، تبقى وحدها القادرة على الفعل والاستمرار.

يتفاوت الكلام عن كل منهم، فصباح نالت قسطا كبيرا من المجد والألق شغل لبنان والعالم لعقود خلت، وكانت في كثير من الأحيان مثار جدل ونقاشات بين مؤيدٍ ومثنٍ وبين ناقدٍ ورافض، ولا سيما في ما يتعلق بحياتها الشخصية والعاطفية وزيجاتها المتعددة، فهي شغلت الاعلام والصحافة مثلما احتلت القلوب. وبالرغم من كل ذلك عاشت حياتها ببساطة بنت الضيعة القوية، التي تعرف ما تريد، وبصدق وسلام داخليين فطرت عليهما. أقبلت على الحياة وأشرقت فنا وإبداعا، جمالا وأناقة، كانت وما زالت مضرب الأمثال بضحكتها المعهودة، وإطلالتها الساحرة جمالا وإشراقا، وبتلك “الكَرّة” الفريدة في صوت حمل لبنان على جناح شحرورة أبت الا العلى مسكنا والأسطورة عنوانا. ورغم محاولات تشويه صورتها في أيامها الأخيرة من قبل بعض المهووسين بالسبق الإعلامي المجردين من أدنى معايير الأخلاق والإنسانية ممن حاولوا تسريب صورها في حالات الضعف والكبر، بقيت الصبوحة صبية جميلة مشعة ومثالا يحتذى لكل الطامحين للمجد والخلود، وقدوة في الكرم والتسامح وحب الحياة. صباح أو جانيت فغالي، رحلت عن 87 عاما (1927-2014)، تاركة دار الفناء الى دار البقاء والخلود، بعدما نسجت في وجدان أجيال واكبتها مكانا ومكانة، لتبقى لهم عنوان صباحات خير، وشمسا دائمة الاشراق.

نهوند الفنانة، وكما يؤكد متابعوها ظلمت بسبب ظروفها وفترات انقطاعها وبعدها عن لبنان، فقد انتشرت أغانيها ولمعت أكثر من اسمها. وأغنيتها “يا فجر لمـّا تطل   لونك بلون الفلّ”، التي كتب كلماتها الشاعر الكبير محمد علي فتوح ولحّنها مصطفى كريدية اشتهرت أكثر منها، وقلة ممن يرددون الأغنية يعرفون اسم صاحبتها، مثلها كمثل مجمل أعمال الفنانة الكبيرة صاحبة الصوت الصادح، الذي لم يقو عليه الزمن، فهي صدمت الكثيرين بإطلالتها على الساحة الفنية منذ بضع سنوات بذات الصوت والقدرة، حين أطلت على جمهورها ومحبيها، في “مهرجان جبيل” وأعادت اغانيها القديمة بتوزيع جديد.

“نهوند من العمالقة الذين ظهروا على ساحة الغناء في خمسينيات القرن العشرين، وما إن انطلقت من الإذاعة اللبنانيّة، حتى انتشر صيتها في كلٍ من دمشق وبغداد، حيث قدمت أعمالا جعلت الكثيرين يطنون أنها عراقية، خصوصاً مع أغنية: “يابا يابا شلون عيون”. كما يقول الصحافي والناقد الفني مالك حلاوي الذي أكد أن ما ترك الأثر الأكبر على شهرتها هو غيابها عن الساحة الفنيّة نهائياً مع زواجها وهجرتها إلى البرازيل.

نهوند أو لارا كيروز اسمها الحقيقي رحلت عن 81 عاما (1933- 2014)، تألقت في زمن الصبوحة وكانت صديقتها، وأبت الصدف إلا أن يتزامن رحيلها مع الغياب المدوي للأسطورة، فيما لم يترك غياب الكبير سعيد عقل في اليوم التالي حيزا كافيا للحديث عنها. فكان ان ظلمت مرتين في حياتها كما في وفاتها.

يبقى أن ما أثير من جدل ولغط حول بعض المحطات في سيرة شاعرنا الكبير سعيد عقل، ومسيرته الحافلة أدبا وثقافة وشعرا لم ينزع عنه صفة الريادة والتفرّد، ولم يقلل من قيمة نتاجه كواحد من أبرز الشعراء العرب المعاصرين. توفي عن عمر يناهز الـ 102 سنتين (1912- 2014 ) لقِّب بالشاعر الصغير، واعتبر من أكبر الداعين إلى القومية اللبنانية.

وفيما يتوالى رحيل الكبار، يبقى الحنين يشدنا الى ذاك الزمن الجميل، يحدونا الأمل بأن يكونوا عناوين مجد نعيد صياغته، ونصوّب مسارنا باتجاهه، بديلا لما يجتاح فضاءاتنا من إسفاف وتشويه للفن والثقافة والابداع، ومن ترويج للجهل والتخلف سيعيدنا الى مجاهل التاريخ .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى