بقلم ناصر قنديل

إفادتي في وجه إفادة مروان حمادة/4

 

nasser

كان الرئيس رفيق الحريري ينتظر بفارغ الصبر اقتراب نهاية عهد الرئيس إميل لحود، وافتتاح البازار الرئاسي ليتخلص مما كان يعتبره كابوس تجربته السياسية في لبنان، وكانت مصادر الرغبة الحريرية بالتخلص من عهد الرئيس لحود أكثر من أن تحصى، على رغم أنّ ملفات كالخليوي والسوليدير وسوكلين كانت اقتصادياً هي الأبرز، ترافقها الفوائد على سندات الخزينة والضرائب على المصارف، إلا أنّ الملفات السياسية لم تكن أقلّ أهمية، فقد كان الرئيس لحود يدرك أنه كان في جزء رئيسي من ولايته الرئاسية محكوماً بإدارة سورية للملف اللبناني مناوئة لعهده، ويعتبرها شريكاً في إفشال العهد الرئاسي بالتعاون مع الرئيس الحريري، فكانت الأمور مطروحة كما يلي، الرئيس لحود إذا توافرت إرادة سورية لتمديد ولايته يريدها من دون الرئيس الحريري، ليحقق إنجازات يعتقد أنه منع عنها بقوة التدخل السوري الذي كان يوفره فريق أصدقاء الرئيس الحريري في سورية، يتقدمهم نائب الرئيس آنذاك عبد الحليم خدام واللواء غازي كنعان في مرحلة لاحقة، وكان طموح الرئيس لحود من دون أن يبدي رغبة في التمديد، أن يقوم في حال حصوله، بفرض قانون جديد للانتخابات مغاير لقانون الألفين الذي يعتبره قانون الحريري على رغم تسميته الرائجة بقانون غازي كنعان، بينما الحريري يرى أنّ التغطية السورية الاستثنائية التي يتمتع بها الرئيس لحود تمنحه مكانة أعلى من صلاحياته كرئيس للجمهورية بعد اتفاق الطائف، ولذلك كان الهمّ الأبرز للرئيس الحريري الحؤول دون تمديد ولاية الرئيس لحود، وصولاً إلى القبول بأيّ بديل مهما كانت درجة قربه من سورية.

عندما يجري الحديث عن الرفض المبدئي للتمديد كعبث بالدستور من طرف مروان حمادة، لا تجري الإشارة إلى أنّ الذين تولوا التمديد للرئيس إلياس الهراوي وافتتحوا السابقة بتعديل الدستور، وعلى رأسهم الرئيس الحريري ومنهم النائب وليد جنبلاط هم أنفسهم الذين أرادوا طرح رفض التمديد من الباب الدستوري فكانت حجتهم ضعيفة وغير مقنعة، لذلك لم يعمد جنبلاط إلى تناول التمديد من هذه الزاوية بل مباشرة من زاوية السعي إلى إنهاء ما أسماه الحقبة السورية في لبنان، بينما كان رهان الرئيس الحريري على خلق معطيات داخلية وخارجية تقنع الرئيس الأسد بأنّ كلفة التمديد أكثر من عائداته، ولذلك لا يخفي أنه على رغم رفضه القبول باتهامه بدور في صدور القرار 1559، وعلى رغم قول مروان حمادة عكس ما كان يقوله الحريري، فالحريري كان يقرّ بأنه كان يسعى لتجنيد صداقاته الدولية والعربية لخلق هذه البيئة، كما كان يسعى إلى تجميع مناوئي التمديد للرئيس لحود داخلياً، ضمن جبهة موحدة غير معلنة تجعل القراءة السورية باستحالة تمريره سبباً كافياً لصرف النظر عنه.

في حزيران عام 2004 كانت عملياً إشارة الانطلاق للسباق نحو قصر بعبدا، وكان فريق التحضير للتمديد للرئيس لحود يقوده اللواء جميل السيد ويجد مساندة حصرية من حزب الله، وترقب من مختلف حلفاء سورية الآخرين، وعلى رغم ميل الكثيرين منهم إلى النصح بعدم السير بالتمديد، وفي المقابل ثنائي الحريري جنبلاط ضدّ التمديد ومعهما نواب «قرنة شهوان» مع مناخ مسيحي بدأت الكنيسة بقيادة البطريرك نصرالله صفير بشحنه ضدّ التمديد، على خلفية المعركة الإجمالية التي تخوضها ضدّ سورية من جهة، بالتقاطع مع تجمّع سحب دولية وإقليمية كانت تزداد سواداً لتدفيع سورية وقيادة الرئيس بشار الأسد ثمن إحباطات أصيب بها المشروع الغربي العربي في لبنان، خصوصاً في القمة العربية عام 2002 ووقفة الرئيس لحود ضدّ المبادرة التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير عبدالله آنذاك، حتى انتزاع تعديلها بتضمينها حق العودة للاجئين، ما رآه الغرب والعرب المتحالفون معه إطاحة لفرص المبادرة بالقبول من جانب «إسرائيل»، وحجم التصاقه بخيار المقاومة الذي كان موضع تنازع دائم بينه وبين البطريرك صفير منذ كان قائداً للجيش.

على المستوى الدولي كان مشروع المحافظين الجدد قد بدأ يحتضر في العراق بعد فشل الحرب، وبدء الحديث علناً عن الانسحاب، وكان التحاق فرنسا جاك شيراك بأميركا جورج بوش غير كاف لتعديل التوازنات، إلا بما تعهّده شيراك بتطويع سورية عبر البوابة اللبنانية من جهة، وتعهّده بتنسيق الضغط السعودي من جهة مقابلة، كما بات معلوماً عبر ما نشر عن اتفاق مستشاري الأمن القومي الفرنسي غوردون دو مونتانيي والأميركية غونداليسا رايس نهاية عام 2003 في نيويورك، كما نشرته «نيويورك تايمز»، وما حمله دو مونتانيي إلى الرئيس الأسد من رسالة تقول إنّ فرنسا تخرج من حلفها المؤسّس على رفض حرب العراق، وتسلّم بالقيادة الأميركية، وهي تضمن للرئيس الأسد مقعداً في هذه المقطورة، إذا قبل أن يكون أحد فرسان مبادرة للتسوية تشبه مبادرة أنور السادات، وتفك الارتباط بإيران والمقاومة في لبنان وفلسطين، وهي تقريباً ذات شروط كولن باول بعد سقوط بغداد، والتي رفضها الرئيس الأسد في ظروف شديدة الخطورة، قياساً إلى ما يجري مع متغيّرات الحرب في العراق وتنامي حلف المقاومة في زمن مبادرة شيراك، وكانت الأزمات على خلفية كلّ توازنات المنطقة بعد حرب العراق، تسمح للرئيس الأسد باعتبار المعركة وجودية، خصوصاً في ضوء ما وصفه وليّ العهد السعودي آنذاك الأمير عبدالله بن عبد العزيز للرئيس بوش في زيارته الشهيرة لتكساس برفقة الأمير بندر بن سلطان، كما نشرت مجلة «تايم» في صيف عام 2003، وقوله إنّ تعديل التوازن الذي اختلّ بسبب حرب العراق لا يتمّ إلا إذا صارت سورية في الحضن السعودي، وهذا طبعاً يعني البدء بخطة إسقاط النظام في سورية ما دام الرئيس الأسد مصرّاً على خياراته متمسكاً بها، الشراكة السعودية ـ الفرنسية تعني أن يكون الحريري جزءاً منها حكماً، بغضّ النظر عن تفسيراته وتمنياته، والشركة بأسهم، فرنسا لها إذا انتصر المشروع سهم الوصاية على إقليم الشام كله، والسعودية لها الحكم الجديد في سورية والرئيس الحريري له إسقاط التمديد وحكم مريح للبنان، بالطبع كان في خلفية هذا التفاهم تهميش دور المسيحيين اللبنانيين وتحويلهم عبر قيادة البطريرك صفير للكنيسة، إلى مجرّد كومبارس للعبة تنتهي بتغيير وجه التعدّد الطائفي في لبنان وتوازناته.

يحاول مروان حمادة تجاهل كلّ ذلك مما يعلمه جيداً وحصر القضية بعنوان مفتعل اسمه «الاستقلال اللبناني» عن سورية، وهو الأعلم أنّ الانتقال من عنجر إلى عوكر يجري على قاعدة الانتقال من إدارة سورية إلى عبودية أميركية سعودية فرنسية، فكيف يستوي لعاقل تخيّل أن ثمة ديمقراطية واستقلالاً مع السعودية والغرب، كما يحاول حمادة تجاهل السعي إلى رفض التمديد من باب المصالح السياسية الداخلية الصرفة المستثمرة على مناخ دولي إقليمي جديد، أو المراهنة كما كتب الراحل جوزف سماحة بعد لقائه وليد جنبلاط أنه يريد الانتقال من المركب السوري الغارق إلى المركب الأميركي الواصل إلى برّ النجاة، وإطلاقه مقولته الشهيرة عن تمنيه أن يكون زبالاً في نيويورك.

كان الجمل بنية والجمال بنية والحمل بنية، لكلّ من أطراف الشركة المساهمة برفض التمديد والحرب الوقائية ضدّه أسباب مختلفة، لتتقاطع الجهود في فتح معركة الرئاسة ضدّ التمديد كخيار، لكن تنبّه الرئيس بشار الأسد كان كفيلاً بجسّ النبض الدولي والإقليمي بصدق يوم أنهى مشاورات فريقه المكلف بدراسة الخيارات الرئاسية، ووصل إلى طرح اسم النائب جان عبيد كمرشح توافقي شرط توقف الإجراءات الغربية والعربية ضدّ سورية، سواء عبر وقف التحضير لقرار يصدر عن الأمم المتحدة في زمن الضعف الروسي، أو بصيغ أخرى لإخضاع سورية وإضعافها وحصارها، آملاً بنتيجتين، الأولى تفادي خيار مواجهة داخل لبنان مع مجموعة واسعة من القوى المصطفة ضدّ التمديد، والثانية التمهيد لسحب قواته تدريجاً من لبنان، لتغيير قواعد اللعبة، وسحب فتائل تفجير ألغام دولية وإقليمية ضدّ سورية، ولما وصلته ردود الأفعال الدولية والإقليمية بأنّ الحرب على سورية مستمرة حتى خروجها من لبنان وتغيير موقفها من قوى المقاومة وعلاقتها بإيران، كان رهانه أنّ ذهابه إلى التمديد صار حتمياً لأنّ الحرب آتية ولا أحد يبدّل أركان حربه في ذروة الاشتباك، وأنّ الذين كانوا يبدون معارضة للتمديد لاعتبارات داخلية لبنانية، سيضعهم قراره على المحك لجهة صدقية ما يقولونه تجاه العلاقة بسورية، فصارت المقاربة تقول، لقد سعينا لتجنّب التمديد، وأنتم تعلمون ذلك، لكن الحرب آتية بكلّ حال، إذن سنقدم تنازلاً بلا مبرّر، ونخسر موقعاً موثوقاً ومختبراً بقدرته على الصمود والمواجهة، ولذلك تنظر سورية ممن يعتبرون أنفسهم أصدقاءها أن يعبّروا عن صداقتهم بتفهّم قرارها ودعمه، كان أول المعنيين هنا هو الرئيس الحريري لأنه الوحيد بين رافضي التمديد الذين لم يربطوا لا سراً ولا علناً، رفضهم باعتبار دستوري زائف، ولا باعتبار استقلال كاذب ولا باعتبار العسكري غير مقبول في الرئاسة، كما كان يقول كل الآخرين المتموضعين ضدّ التمديد، وكان موقف الحريري كافياً لنجاح التمديد كخيار، وتسديد صفعة لمشروع شيراك عبدالله الذي يرعاه بوش.

كم كان صعباً على الرئيس الحريري الخيار هنا، وكم كان قاسياً وقع قراره على السعودية وفرنسا وأميركا، وهذا هو سرّ الارتباك الذي أمعن في وصفه مروان حمادة من دون أن يقول لنا عن أسبابه، وفي المقابل من دون أن يجد له السعوديون والفرنسيون والأميركيون عذراً، وهم لا يعترفون بنظريته عن الصالون والملجأ حول اتفاق الطائف والرعاية السورية، بدليل سيرهم بالقرار الذي عرف لاحقاً بالقرار 1559، ورهانهم أنّ حربهم على سورية لم يعد ممكناً أن تعتمد على الحريري الذي خذل المراهنين عليه، ومن يعلم قواعد لعبة الأمم يعلم ماذا يعني الوثوق المبالغ به بالمكانة لدى حلفاء أو شركاء كبار وخذلانهم في لحظة لا تحتمل الاجتهاد.

سقط الرهان على توظيف الحريري كرأس حربة لإسقاط سورية في لبنان من بوابة رئاسة الجمهورية، ورفض التمديد، فصار الرهان على ترميم حلف التمديد تحت عنوان حلف قانون الانتخابات، ومنح الحريري حظاً جديداً بقيادة الحلف بشراء بطاقة احتياط له، شرط عدم تكراره خذلان الحلفاء الكبار في معركة ليّ الذراع السورية، باستيلاد برلمان تحكمه غالبية مناوئة لها ولخياراتها، فماذا حدث بعد التمديد؟

الحلقة المقبلة: الرئيس الحريري بعد التمديد وصالون الانتخابات واللوائح الانتخابية.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى