بقلم ناصر قنديل

رجال ومواقف

nasserفي وقفة له في بور سعيد قبل ستين سنة تماماً قال جمال عبد الناصر للسفير الأميركي عبر الجماهير المحتشدة، أن يبلغ وزير التجارة الذي حمله رسالة احتجاج على سياسة القاهرة مهدداً بوقف المساعدات الأميركية لمصر، فقال إن المصريين «خلقهم ضيق» ولا يتحملون أن يعطيهم أحد النصائح، ومساعداتك سنستغني عنها بإجراءات بسيطة، «نشرب شاي مرتين بدل خمس في اليوم ونأكل الفراخ مرة بدل اثنتين في الأسبوع».

في مفاوضات عام 1974 حول فك الاشتباك في الجولان بعد قرابة السنة من حرب الاستنزاف، وخروج مصر من الحرب، جاء وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر ليفاوض الرئيس حافظ الأسد، ملوّحاً بالقدرات الاقتصادية لأميركا، وبالفوضى التي تصيب البلاد التي تعيش حالة حرب، فما كان من الرئيس حافظ الأسد الذي نحتفل معه بذكرى حركته التصحيحية، إلا أن سحب من فوق مكتبه ملفاً يضم إحصاء نسبة الجريمة أثناء الحرب مقارنة بالسنوات التي قبلها ليقول، انظر عندكم تنقطع الكهرباء في مدينة فتقع آلاف جرائم القتل والسرقة والاغتصاب، عندنا حرب شهور عشرة والجريمة العادية صفر، أتعرف السبب؟ لأن وطنية اللص والمجرم تتفوق على إدمانه الجريمة فيخجل من نفسه والبلاد في حالة حرب، ثم مدّ يده إلى الملف الثاني، وفيه أنّ سورية نادرة بين الدول التي لا تستورد قمحاً أميركياً، ليضيف شعبنا يكتفي بلقمة الخبز الوطنية، ولا يقايض كرامته وسيادته. وعلق كيسنجر على هذا اللقاء، بقوله وهو يروي الواقعة، كان هذا الزعيم كمن يعلم سلفاً بما سأعرضه عليه وأقوله له، فأعدّ لي الأجوبة المناسبة تسندها الوثائق، إنه من صنف القادة النادرين ذكاء وشجاعة.

في العام 1960 وقف خروتشوف زعيم الاتحاد السوفياتي يومها على منبر الأمم المتحدة يلقي كلمة بلاده، ولما بدأ سفراء الغرب ومندوبوه بالهرج والمرج تعليقاً على مواقف خروتشوف المطالبة بحق الصين الشعبية بالانضمام إلى الأمم المتحدة، نزع خروتشوف فردة حذائه وضرب بها على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكمل الخطاب والحذاء فوق المنبر وغادر المنصة تاركاً فردة حذائه ومشى بفردة واحدة إلى مقعده.

في ليلة من ليالي أيار عام 2000 وبينما الفرق الدولية واللبنانية تمسح خط الحدود، لتثبيت نقاط الانسحاب «الإسرائيلي» وفقاً لخط الحدود الدولية، ولبنان يسجل اعتراضاته وتحفظاته، ويرفض صدور قرار عن مجلس الأمن باعتبار الانسحاب منجزاً والقرار 425 منفذاً، تلقى الرئيس اللبناني إميل لحود اتصالاً من وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، تطلب منه القبول باعتبار الانسحاب «الإسرائيلي» منجزاً، وبعد جدال لساعات، لم تتردّد أولبرايت بتفوّهها بجملة «أنت لم تنتبه أنك تحدث وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية»، ليجيبها الرئيس لحود، «وأنت لم تنتبهي أنك تتعدّين على وقت نومي»، وأقفل الخط.

في فجر الثامن من تموز 1949 نفذ حكم الإعدام بالزعيم القومي أنطون سعاده ونقل الكاهن الذي قابله قبيل الإعدام كلمات أراد سعاده تدوينها للتاريخ تقول: «أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكن قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أنّ الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد. ويحتفل تلامذة سعاده وحزبه بعيد تأسيس حزبهم هذه الأيام، فقد شاء التاريخ أن يكون يوم السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 يوم الحركة التصحيحية للرئيس حافظ الأسد، هو يوم تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932، ويوم اعتقال سعاده ورفاقه عام 1935 من قبل قوات الاحتلال الفرنسي.

في مطلع العام 2010 استقبل الرئيس السوري بشار الأسد وزير خارجية أسبانيا السابق ميغل انخل موراتينوس، ونقل صحافي أسباني عنه، أنّ اللقاء كان لنقل تحذير أميركي مضمونه أن سورية سلمت سلاحاً كاسراً للتوازن إلى حزب الله وأنّ الجزء الحساس من هذا السلاح لم يسلّم بعد، ويشرح الصحافي الإسباني، أنّ القصد كان سلاح دفاع جوي، والجزء الحساس هو الرادارات، وأنّ العرض الأميركي هو أن عدم تسليم الجزء الحساس سيفتح صفحة مريحة لسورية سياسياً واقتصادياً، والإصرار على تسليم هذا الجزء بمثابة إعلان حرب، فكان جواب الرئيس بشار الأسد وفقاً للصحافي الإسباني، يبدو أن الاستخبارات الأميركية لم تعد على كفاءتها السابقة، وابتسم وقال: «أبلغهم أن ما يسمونه الجزء الحساس وصل قبل باقي الأجزاء».

شارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة العشرين، وتلقى هجمات كلامية تطاول موقفه الداعم لمواطني شرق أوكرانيا، وسمع التهديد بالعقوبات على بلاده، فعقد مؤتمراً صحافياً هادئاً، ولم ينتظر توزيع البيان الختامي، وانتقل إلى طائرته مغادراً، يلتقط الصور التذكارية مع رجال الشرطة والأمن في المطار وهو يبتسم، ولدى سؤاله عن سبب مغادرته مبكراً من دون مصافحة الرؤساء المشاركين ووداعهم، قال: «لقد فاتني كثير من النوم».

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى