بقلم ناصر قنديل

غسان بن جدو

nasser

لا توجد لحظات أشدّ تأثيراً في حياة الإنسان بمستوى اللحظات التي يفقد فيها الأم، وليس مثلها وقت لتقول لشخص كم هو كبير بعين أمه، ولا أغلى على قلبه من هذا الشعور، ولا مواساة بفقدها أشدّ وقعاً، وغسان الذي ودع والدته قبل أيام موضوعي للكتابة الذي اخترت له هذا التوقيت، لأنني مررت بالتجربة قبله وأعلم ما لا يعلمه من لا تزال أمهاتهم من حولهم، وآمل أن يعرفوا حسن التعبير الاستباقي عن لحظة فقد أتمنى لهم أن تبقى بعيدة.

في عزاء بوالدة الدكتور الراحل ألبير مخيبر، تساءل أحد المعزين عن عمر الراحلة والدته ويومها كان مخيبر قد تجاوز الثمانين، فردّ مخيبر بكلمات معبّرة أستعيدها في كلّ تعزية لعزيز بفقد الأم، قال: إنّ الأم هي الكائن الوحيد الذي لا يُقاس الحزن على فقده بواقعية العقل ومتوسط العمر، بل إنّ عمراً تمضيه مع الأم أطول يجعل الشعور بالفقد أكبر.

غسان واحد من شباب العرب الذين تربّوا في بيئة متوسطة كثيرة شبيهاتها بين هؤلاء الشباب، وليس في قلبه وعقله إلا آمال يتقاطع فيها العام والخاص عند إعلاء شأن الأمة التي تتراوح بين مفهومي العروبة والإسلام، لكي تبقى فلسطين في مركز القلب في الحالين، والكلمة سلاح الإيمان وأداة الفعل معاً، وببساطة الثقة صار غسان صاحب كلمة.

لم تتيسّر للشاب غسان بن جدو من أسباب النجاح مؤثرات ومصادر غير مؤهّلاته ومثابرته وتواضعه، فصار غسان وجهاً لوجه مع «إسرائيل» وهو يقف في خندق المقاومة، فكأنها كانت لحظة عمره، لكنها كانت لحظة ولادته كمشروع، صار غسان مشروعاً، وتكرّرت الوقفة مرة واثنتين وكبر المشروع.

الفكرة التي كانت ضوابط لا تقبل المساومة، صارت هدفاً يستحق القتال، فانتقل غسان من وضع خطوطه الحمراء إلى رسم الضوء الأخضر حتى أشعل الضوء الأول في استديو الميادين، فصار غسان خندقاً.

نجاح غسان بن جدو بتقديم الصحيح والمنتقى بعناية والملتزم بأمانة والمنخرط بصراع لا هوادة فيه، لم يعد موضع اختبار، فقد صار يتقدم الصفوف وبيده الإثبات ودليل الإمكان هو الوقوع، يمكن ألا تساوم على أفكارك وتكون ناجحاً، ويمكن أن لا تبيع ولا تشتري على ظهر الحقيقة ولا تفشل مهنياً ولا تنهار مالياً، هي حقائق لا فرضيات قدمتها «الميادين» وصاغها بالتعب والجهد والجدية غسان.

ليس مهماً كيف، ولا عبر أي طريق، المهم هو أنّ التجربة تقول نتيجتها، والشاشة تتحدث عن خلفيات محركاتها والضوابط التي لا تشبه أحداً سوى نفسها، فإنْ كانت باحترامها لذاتها وحقيقتها وناسها فرضت خصوصيتها على من يملكون خصوصية مخالفة، فتلك شهادة مزدوجة لها بما ثبتت عليه ولها بما غيّرت في الآخرين، وهي نجاح واحترام لغسان، وإنْ كانت جمعت من المريدين والمؤمنين بما تحمل من قيم ومبادئ، فتلك كانت في البداية الثقة بغسان.

غسان بن جدو الصديق والأخ ورفيق الخيارات الكبرى، تعزيتك أنّ الأم التي كانت تحسّ أحلامك في الأمة والقضية من دون أن تحدثها عنها، وخصوصاً عن تطلعك لتلعب دوراً مركزياً فيها، لم تغادرك إلا بعدما رأتك بأمّ عينها تصل وترفع راية «الميادين» خفاقة في فلسطين، وراية فلسطين دائماً في «الميادين».

غسان أقدمك مثالاً لشبابنا العربي لمزيد من الثقة والأمل بأننا نستطيع، نعم نستطيع الكثير.

باسمي وباسم أسرة «البناء» أتقدم منك بالتعزية.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى