بقلم ناصر قنديل

العبرة والعبير والربيع من تونس

 

nasser

«الربيع العربي» الذي بدأ من تونس وبالتحديد من سيدي بو زيد، يعلن نهاية الحقبة السوداء التي حكمته من تونس ومن سيدي بو زيد أيضاً ، حيث عبير دماء الشهيد محمد البراهمي، القائد الشعبي الفذ الذي اغتاله حرامية الربيع، فتوج الناس البسطاء صناع الثورة، زوجته مباركة البراهمي نائباً عنهم، وإذ أسجل افتخاري بالصداقة ورفقة الدرب في شرح حقيقة ما يجري في سورية منذ البدايات مع الشهيد الحاج اليساري القومي محمد البراهمي، ورفيق الدرب الشهيد المفكر والخطيب شكري بلعيد، أهنّئ سيدي بو زيد وتونس وأسرة الشهيدين وسائر مناضلي تونس، الذين كانوا أساس ثورة شعبها بدزينة المقاعد النيابية التي حصدوها، بقوة مثابرتهم على رغم ضآلة الإمكانات حد الصفر، وأهنئ العزيزة الأخت مباركة البراهمي بمواصلة مسيرة زوجها الشهيد محمد.

العبرة هي في أنّ ما قالته تونس خلال الأعوام الماضية، حسم وجود مرحلتين متتاليتين في الحراك السياسي والشعبي على المستوى العربي عموماً، ما يؤكد أنه ليس خصوصياً ببلد ولا نتاج ظروفها المحلية، بل هو كما الانفجار الأول عام 2011 ترجمة لمعطى عام يشمل البلدان التي شهدت ما عرف باسم الربيع العربي، فنحن نشهد من مصر إلى تونس إلى ليبيا إلى اليمن وصولاً إلى سورية، سقوط الإخوان المسلمين كمشروع قادر على قيادة الدولة الوطنية، على رغم كل الفرص التي أتيحت له من إيحاءات ودعم النموذج التركي الإخواني، إلى المال القطري وإعلام الجزيرة والدعم الاستخباري الغربي والرضا «الإسرائيلي»، فتهاوى حلم قرن كأشلاء خيط عنكبوت، وشكلت خسارة حركة النهضة التونسية في الانتخابات، العبرة الأهم في تجربة الإخوان في الحكم، لأنها لا تحتمل التباسات ليبيا ومصر واليمن وسورية وقابليتها للتأويلات المختلفة، انتهت حقبة الإخوان ومعها الحقبة القطرية التركية إلى غير رجعة، وربما يمكن القول إن سقوط الإخوان المدوي جاء بسبب قبولهم لعب دور حصان طروادة لمشروع خليجي متخلف يمسّ كلّ مقومات السيادة الوطنية من جهة، ورأس جسر للاستعمار العثماني الجديد بكلّ ما ينبشه من ذاكرة سوداء لدى النخب والرأي العام العربي من جهة أخرى، ولم يغير في ذلك حيث وقفت السعودية داعماً للمشروع الإخواني كاليمن وسورية، ولا حيث وقفت ضده كليبيا ومصر.

سقطت حقبة «التتريك» و«التقطير» و«الأخونة»، وبدا واضحاً أن الناس عادت بطريقتها لمشروع الدولة الوطنية، بما تيسر من المكونات، فحيث امتلكت الدولة الوطنية مشروعاً قادراً على الصمود بوجه الأخونة كحال سورية، استردت الدولة وجيشها وقيادتها كثيراً من الشرائح التي تاهت في حمى الوعود والحرب النفسية والاشتغال على العصبيات، وحيث سيطر الإخوان واستتب لهم الأمر، استعانت الناس ببقايا الدولة السابقة ووضبتها ورممتها وأعادت تعويمها، سواء عبر استنهاض بقايا جيشها كحال ليبيا، أو بدولتها العميقة بمؤسساتها الراسخة في الجيش والقضاء كحال مصر، أو حزب الماضي المتجدد كحال تونس، أو تحالف شعبي تقوده قوى التجدد، لكنه يستنهض بقايا النظام القديم بشروط جديدة، كحال اليمن، سواء بجناحها الحاكم للشمال سابقاً أو ما قبل ذلك جناحها الحاكم في الجنوب.

الدولة الوطنية فوق الهوية السياسية للفريق الحاكم، وبرنامجه السياسي أو الاقتصادي، فالناس تريد أولاً دولتها وبعد ذلك تعلمت الناس أن الفوضى طريق خراب، وأن الدولة أثمن من التفريط بها لقاء وهم حلم، وأن الإصلاح التدريجي لأحوالها وبالطرق السلمية بعد الإنجاز الذي تحقق من ثورة الغضب، بردع الحكام عن اللجوء لسيرة الأسلاف، صارت الحصانة للتغير الهادئ أكبر وأثبت وأضمن وأبقى.

على المقلب الآخر لم تنتج تجربة الإخوان إلا الحضور الدموي للتطرف الوهابي، الذي ترعى فرعيه «داعش» و«النصرة» كل من تركيا وقطر، رعاة الإخوان، خلافاً للمفترض أنهما على خصام مع دار الوهابية الأم في السعودية، ما يؤكد أن الإرهاب المستند إلى التكفير الديني ليس أكثر من سوق مفتوحة لأجهزة الاستخبارات، قابل للبيع والشراء، قابل للتأجير، خريطته تتحرك غب الطلب، فيصير مشروع كانتونات حدودية، من حدود ليبيا مع تونس وليبيا مع مصر، إلى حدود مصر مع فلسطين في جنوب سيناء، وحدود مصر والأردن في شمالها، وحدود الأردن مع العراق وسورية، إلى حدود الأردن وفلسطين وسورية، حدود سورية ولبنان مع فلسطين، والحدود السورية اللبنانية، إلى الحدود السورية التركية، والحدود التركية العراقية، والحدود السورية العراقية.

العبرة أن المشروع الغربي الذي تقوده واشنطن في المنطقة والذي كان الراعي للحقبة الأخوانية، يهمه اليوم أن يدير حروب الكانتونات الحدودية للإرهاب المستأجر، مع مشاريع قيامة الدولة الوطنية ووقوفها على قدميها من جديد، أملاً بإعاقة قيامتها، واستنزاف قدراتها، وتحويلها إلى دولة فاشلة، كما بدأ التبشير بحالتي ليبيا واليمن.

نموذج الدولة الوطنية في سورية يقول إن قدرة المقاومة والصمود لدى شعوب المنطقة ونخبها، لا تزال تملك مقومات الحياة التي يحتاجها مشروع الدولة الوطنية، إذا كان الرابط بين هذا المشروع والاستقلال الوطني ناصعاً لا تشوبه شائبة، وأن معيار الكرامة الوطنية الذي انتفض رفضاً للوصاية التركية القطرية، لا يسلس القياد لنموذج السعودية الأشد تخلفاً وتبعية.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى