الاقتصاد السياسي للتوجه شرقاً (5)

حميدي العبدالله

ماهية سياسة التوجه شرقاً

ما المقصود بالتوجه شرقاً وما هي طبيعة هذا المشروع؟ بالنسبة للكثيرين الذين يسمعون بهذا الشعار، لا يعرفون معنى سياسة التوجه شرقاً، وربما يصاب البعض بخيبة أمل إذا كان التقدير أن سياسة التوجه شرقاً تعني قيام كيان سياسي واقتصادي موحد بشكل كامل بين دوله على غرار الدول الاتحادية مثل الولايات المتحدة، أو على غرار ما كان يحلم به الكثير من العرب، ولا يزالون يحلمون به، وهو قيام دولة عربية واحدة تذوب في إطارها كل الدول القطرية التي تشكل الكيانات العربية الحالية.

لا شك أن سياسة التوجه شرقاً والمشروع المطروح على هذا الصعيد لا يضع في حساباته تحقيق مثل هذه الغاية غير الممكنة وغير الطبيعية، فهذه الدول على الرغم مما يجمع بينها، إلا أنها منطقة مترامية الأطراف، ومتعددة الثقافات والأديان إلى درجة يصعب معها تصور أن يقوم كيان واحد يضم دولها بقومياتها المختلفة وأديانها المتعددة، وثقافاتها المتنوعة، فحتى ما تحقق للاتحاد الأوروبي لا يتحقق للدول التي يمكن أن تكون جزءاً من مشروع التوجه شرقاً، فإذا كانت أوروبا متعددة القوميات فهي لا تنطوي على التنوع الديني والثقافي الذي تحتويه المناطق المرشحة للدخول في مشروع التوجه شرقاً.

لا يمكن على الإطلاق استبعاد تأثير تعدد الأديان والثقافات التي تميز المساحة الجغرافية التي ستكون الإطار الجغرافي لمشروع التوجه شرقاً، لأن هذا التنوع يؤثر تأثيراً كبيراً ويرسم حدود التعاون والاندماج بين الدول الواقعة في هذه المنطقة.

في المقابل هناك ثلاثة نماذج قد يستلهم مشروع التوجه شرقاً جزءاً من كل أنموذج، ليشكل خاصيته التي تعكس مستوى التحول التاريخي، وما حمله هذا التحول من عناصر تساهم في خلق وضع فريد عند وضع مشروع التوجه شرقاً موضع التطبيق.

الأنموذج الأول، كتلة «الحياد الإيجابي» التي نهضت في منتصف خمسينات القرن الماضي وضمت دولاً في آسيا وأوروبا وإفريقيا، وكان من أبرز روادها الرؤساء جمال عبد الناصر في مصر، وأحمد سكارنو في أندونيسيا، وشون لاي في الصين، ونهرو في الهند وجوزيف بروز تيتو في يوغسلافيا. هذه الكتلة الدولية التي جمعت دولاً من آسيا وإفريقيا وأوروبا حتمت قيامها سياسة الاستقلال عن الكتلتين الدوليتين الكبيرتين آنذاك، الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي، والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.

لا شك أن ولادة هذه الكتلة كان العامل الأساسي فيها هو الموقف السياسي المشترك القائم على مبدأ الاستقلالية عن الاستقطاب بين الكتلتين الشرقية والغربية. ولكن لم يكن للعوامل الاقتصادية دور فاعل في ولادة هذه الكتلة، ولذلك ظلت هذه الكتلة أقرب إلى التحالف السياسي منها إلى أي شيء آخر، ولم تنشأ روابط اقتصادية متينة بين هذه الدول تعزز فعل الجوامع السياسية بينها. تختلف هذه الكتلة عن مشروع التوجه شرقاً في أن مشروع التوجه شرقاً يحوز على عوامل دافعة أكثر قوة، وتتكامل فيها العوامل السياسية مع العوامل الاقتصادية وعند ولادة الكتلة الشرقية، أو التكتل الشرقي، سيكون ذلك أمتن بكثير من كتلة الحياد الإيجابي.

الأنموذج الثاني، الاتحاد الأوروبي. لا شك أن التوجه شرقاً يحوز على بعض الشروط التي توفرت للاتحاد الأوروبي وساعدت على قيامه، ومن بين هذه الشروط التقارب السياسي والمصالح الاقتصادية المشتركة، ومعروف أن نجاح سياسة التوجه شرقاً مرتبطة بهذين العاملين، ولكن الاتحاد الأوروبي يختلف عن مشروع التوجه شرقاً في عامل التنوع الثقافي والتعدد الديني، والأرجح أن هذا العامل سيؤثر على مستوى الاندماج في مشروع التوجه شرقاً ويجعله أدنى من الاتحاد الأوروبي.

الأنموذج الثالث، هو الكتلة الغربية التي تضم الدول الغربية، من أستراليا مروراً باليابان وأوروبا وانتهاءً بالولايات المتحدة وكندا. الكتلة الغربية، أو الشراكة الأطلسية التي انبثق عنها حلف الناتو، تشكل أنموذجاً ثالثاً قد يحمل بعض السمات التي يمكن أن يحتويها مشروع التوجه شرقاً، والأرجح أن التوجه شرقاً سيكون أقرب كأنموذج إلى الكتلة الأطلسية منه إلى الاتحاد الأوروبي أو مجموعة الحياد الإيجابي، لأنه ينطوي على عناصر تدفع باتجاه تعاون وتكامل وتنسيق اقتصادي وسياسي أعلى من كتلة الحياد الإيجابي، وأدنى من العوامل التي جمعت دول الاتحاد الأوروبي، ولكنها تقترب إلى حد التطابق من العوامل التي جمعت دول الكتلة الغربية.

إذن مشروع التوجه شرقاً، عندما يذلل كل العقد والعقبات والعراقيل، سيكون شكلاً من أشكال التعاون السياسي والاقتصادي بين دوله، وستنشأ الكثير من الأطر والمؤسسات المشتركة التي تسهر على رعاية العلاقة بين دوله، ولكنه لن يكون شكلاً من أشكال الاتحاد أو الدولة الواحدة حتى وإن كان مستوى الترابط بين أقاليمها أقرب إلى الترابط الكونفدرالي. لكنه قد يكون أكثر قوة وحرارة من روابط الكتلة الغربية لأنه يقوم على مصالح متكافئة بين دوله، وبعيداً عن هيمنة الدولة الأقوى والأكبر، كما هو الحال في الكتلة الغربية، حيث الهيمنة للولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى