بقلم ناصر قنديل

رسالة نفايات إلى دي ميستورا

nasser

ناصر قنديل

– كاد اللبنانيون أن يصدّقوا لدى سماع المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا وهو يتحدّث عن لبنان كنموذج سياسي ملهم لبلورة حلّ للأزمة السورية أنّ لديهم الدواء الشافي، وهو لا يقصد بالطبع العيش الواحد لأبناء الديانات المتعدّدة، لأنّ النموذج السوري في هذا المجال، مع وجود كتلة غالبة عابرة للطوائف، متقدّم على النموذج اللبناني الواقف على خطوط حروب الطوائف، ومتقدّم كذلك في نموذج الدولة المدنية والحماية التي تقدّمها الدولة لكلّ مواطنيها في وجه مخاطر التهجير والتطهير، والقصد واضح هنا إذاً بالإلهام، وهو إعادة تكوين مؤسسات الدولة على أساس طائفي، ولا نعلم إذا كان بعض الذين كرّروا كلام دي ميستورا أرادوا ذات المقصد، لكننا نعلم أنّ جون كيري قالها بالوضوح التام ومثله فعل السعوديون.

– ليس موضوعنا هنا الدخول في الجدل حول مخاطر التكوين الطائفي للدولة على وحدة المجتمع وسلمه الأهلي، وهي أمور بائنة في التجربة اللبنانية الملهمة للفراغ الدستوري والفشل السياسي والمفتوحة دائماً شهية طوائفها وعصبياتها على الحروب الأهلية، والأخطر المشرّعة أبوابها وعبرها أبواب لبنان، للتدخلات الأجنبية منذ تزامن عهد القائمقاميتين كأول عهد للتنظيم الطائفي لتوزع السلطة، مع عهد القناصل الأجانب ورعايتهم للحكم وإشرافهم على إدارته، وليس موضوعاً يحتاج إلى دليل حجم الانكشاف اللبناني أمام الخارج بسبب التنظيم الطائفي لتكوين السلطة، حيث البحث عن الاستقواء المتقابل بخارج مقابل خارج، وتسليم مقدرات البلد وقراره لخارج مقابل خارج، واستدراج العروض الطائفية للحمايات مقابل السيادة، حتى دخل «الإسرائيلي» من الباب العريض بفعل هذه المعادلة.

– موضوعنا الدولة كآلة للخدمات العامة والصلة بينها وبين التنظيم الطائفي، من وحي ما يشعره المتنقل بين بيروت ودمشق هذه الأيام، بيروت واحة السلم الأهلي المتعفّنة بروائح النفايات، ودمشق حمى الحرب المتنعّمة ببركة النظافة، فهل فكر أحد من المستمعين للسيد دي ميستورا بسؤاله عن صلة النموذج الملهم الذي يدهشه، بمشهد النفايات المتراكمة بكلّ ما فيها من آفات وما يصحبها من مخاطر ومصائب وكوارث بالتنازع الطائفي على المحاصصة لتقاسم صفقات الشركات والتعهّدات والمطامر والمحارق، وهل فكر السيد دي ميستورا أن يسأل نفسه، كيف يحدث أن تكون سورية التي تعيش في حمى الحرب المفتوحة منذ خمس سنوات لا تزال ترفع نفاياتها من شوارعها بانتظام على مساحة محافظاتها التي تزيد سكاناً عن لبنان خمس مرات وتزيد مساحة قرابة العشرين مرة، وها هي سورية تعالج نفاياتها وتزيل آثارها وتتخفف من وطأة أعبائها من دون توقف ليوم واحد؟ بينما لبنان المتنعّم بالسلم والأمن محاصر بالروائح النتنة منذ أسابيع، ولا يعرف سبيلاً للتخلص من هذه الكارثة، ولا يبدو أنّ في الأفق حلاً قريباً لها، وهل يملك السيد دي ميستورا المتنقل بين بيروت ودمشق أن يقدّم لنا تفسيراً واحداً غير التباين في بنية الدولة المختلفة بين البلدين لفهم هذا الفارق المدهش أكثر من دهشة دي ميستورا المفتعلة أمام النموذج اللبناني الملهم؟

– في سورية بعد خمس سنوات حرب، حيث توقفت عجلة الاقتصاد وتقطّعت الطرق بين المحافظات وحيث يقاتل الجيش على أكثر من ستماية نقطة مواجهة، لا يخرج وزير المال ليقول إنّ التجاذب السياسي سيتسبّب بالعجز عن دفع الرواتب للموظفين في مواعيدها، بل تدفع الرواتب في مواعيدها لأكثر من أربعة ملايين موظف ومتعاقد مع الدولة يعادل عددهم الشعب اللبناني كله، وفي سورية هذه لا تزال الطبابة ولا يزال التعليم حتى المستوى الجامعي يقدّمان مجاناً، ولا يزال الدواء والتنقل على رغم ارتفاع أسعارهما أقلّ بعشر مرات عن الأسعار في لبنان، ولا يزال المازوت والخبز يحظيان بدعم يزيد على الخمسين في المئة من التكلفة، ولا تزال الكهرباء على رغم التقنين واستهداف حقول الغاز وشبكات التوزيع ومحطات التوليد بأعمال حربية وإرهابية، تصل أفضل مما تصل في كثير من المناطق اللبنانية، ولا يزال المتنقل بين دمشق وبيروت يتصبّح كلّ يوم فجراً بعمال الحدائق يقومون بسقاية الأحواض التي تتوسط طرفي الطرق العامة، ولا تزال ورش الصيانة للحدائق والطرق تقوم كلّ منها بالمهام التي اعتاد رؤيتها زوار دمشق في سني الرخاء، حيث الكيلومترات الخمسين بين دمشق والحدود الدولية لا تقارن بخمسين مثلها تمتدّ من الحدود إلى بيروت، ولا يزال رجال شرطة السير ومراقبو رادارات الطريق السريعة يسهرون على تطبيق القوانين.

– في سورية دولة تحكم البلد والموارد وتشرف على تقديم الخدمات، دولة المواطنة، والوطن، وفي لبنان شركة تستثمر البلد والموارد والخدمات، شركة الطائفية والمحاصصة الداخلية والخارجية، ولأننا نعلم أنّ البعض الكثير من الحرب على سورية تقف وراءه شركات التربّص بخصخصة القطاع العام، فنستطيع أن نعلم أنّ الوصفة المثلى للانتقال بسورية من حكم الدولة إلى الشركة هي الحصحصة الطائفية للدولة حيث تطاول الخصخصة السيادة الوطنية كما تطاول مرافق الخدمات العامة، فتمتلئ الجيوب وترتاح القلوب، جيوب المرابين وقلوب المستعمرين، وهؤلاء هم أسياد دي ميستورا الذين يعملون بالتكافل والتضامن ويموّلون مهمته ويضعون له الخطط، وهم الذين يعرفون ماذا يريدون فلا تضيع عنا بوصلتهم.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى