بقلم ناصر قنديل

– أوباما يجلب الذعر لحلفائه الصغار

nasser

ناصر قنديل

– بعد توقيع التفاهم النووي مع إيران تشتغل دول الغرب وفي مقدّمها أميركا على ثلاثة محاور، الأول تسويق الاتفاق كمصلحة عليا لدولها لقطع الطريق على الاستغلال الانتخابي للخصوم المحليين لواقعة الإقدام على المصالحة مع خصم عقائدي وسياسي واستراتيجي عنيد، لم يأت التفاهم معه بمثابة صك استسلام يسمح بالتباهي بنصر عظيم، في دول تصرّفت طوال عقود أنها الحاكم المطلق في العالم وأنّ ما لا تحله التهديدات مع خصومها تحله ترجمة التهديدات، بالتالي عدم الذهاب إلى الحرب يبرّره في نظر شعوبها شيء واحد هو المجيء بنتائج الحرب من دون خوضها، وهذا ليس حال التفاهم النووي مع إيران. واللعبة التنافسية داخل هذه الدول تتسع للكثير من الانتهازية كطريق للتناوب على الحكم، فيمكن للمعارضة أن تصعد إلى صهوة الحكم على جثة الحاكم بتدفيعه ثمن اتفاق عقلاني لا بديل له وتصويره هزيمة نكراء وتخاذل جبان، وعندما تصل إلى الحكم تتبنّى التفاهم نفسه وتعمل بموجبه. وهذا ما سبق وحصل مثلاً مع الانفتاح الأميركي على الصين الذي دفع ثمنه الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، ولم يتغيّر في مفهومه شيء مع الإدارات المتعاقبة على حكم أميركا، لذلك يكثف الرئيس الأميركي باراك أوباما إطلالاته الإعلامية شارحاً للتفاهم وضروراته كمصلحة عليا أميركية ليس دفاعاً عن هذا التفاهم، بل دفاعاً عن مكانة حزبه الانتخابية. ومثله يفعل زملاؤه الغربيون لأنّ التفاهم لم يعد في خطر، وهذا ما يعرفه الحكام ومنافسوهم، بل الخطر هو على الأحزاب الحاكمة من أن ينجح خصومها ومنافسوها بتدفيعها ثمن العمل بعكس ثقافة العنجهية والغطرسة التي زرعوها في شعوبهم طوال عقود، ولم ينجحوا بجعلها أساساً في هذا التفاهم، بينما التفاهم نفسه في أمان من أي تغيير مهما كانت المتغيّرات الداخلية في الدول التي وقّعت وستوقّع، خصوصاً من لحظة صدور قرار مجلس الأمن الدولي بتبنّي نصّ التفاهم.

– الجبهة الثانية التي تشتغل عليها قوى الحكم في دول الغرب هي الاستعداد للورشة الاقتصادية العملاقة التي تنفتح أمام شركاتها ومؤسساتها الاقتصادية، فالاتفاق لا يزيل العقوبات عن إيران فقط بل يزيل الحواجز من طريق الشركات التي منعتها العقوبات من التوجه نحو السوق الإيرانية، وهي سوق لمئة مليون نسمة، في بلد منقطع عن السوق الغربية ومتعطش لسلعها منذ أربعة عقود ويملك شعبه مخزون ثروات هائل وسيملك قدرة شرائية عالية تترجمها تغيّرات أسعار صرف العملة، التي بدأت تظهر قبل أن تستردّ إيران ملياراتها المجمّدة والمقدّرة بمئة وخمسين مليار دولار. وإيران هي الدولة القارّة الكاملة الغنية بالثروات الطبيعية المعدنية والنفطية والثروات الزراعية والخبرات الصناعية. ويقدّر البنك الدولي حجم الرساميل التي تتسع لها السوق الإيرانية، للاستثمار في صناعات الصلب والنقل والتغذية والخدمات والعمران، للسنوات العشر المقبلة بتريليون دولار، تستطيع هياكل الاقتصاد الإيراني استيعابها وامتصاصها، لأنه وخلافاً لما يفترضه الكثيرون فإنّ الفرص الاقتصادية تكون أكبر في البلاد المتطوّرة والبلاد الغنية وليس في البلاد الفقيرة والضعيفة اقتصادياً. وبالتأكيد فإنّ هذه الكعكة التي تتيحها «إيرانيوم» أيّ إيران اليوم أو إيران بعد التفاهم النووي، تتسع لمئات وآلاف الشركات العالمية في كلّ حقول ومناحي الاقتصاد من كلّ أصقاع الأرض. وسيكون متاحاً لحكام الغرب أن يخاطبوا اقتصادياتهم الراكدة بالقول لقد جئناكم بالفرصة الذهبية، وأن يحولوا هذه الفرصة سبباً سياسياً لتسويق الاتفاق وحمايته. فيكفي أن نعرف معنى زيارة وزير الخارجية الفرنسي ووزير التجارة الألماني خلال الأسبوع المقبل إلى طهران لنعرف معنى هذه الفرصة وحجم أهميتها في مستقبل السياسة في الغرب. ومهم أن نرى معنى قول لوران فابيوس «لا نتوقع أنّ إيران تنوي معاقبة فرنسا وشركاتها اقتصادياً بسبب الموقف خلال المفاوضات، فنعتقد أنّ ذلك جزء من صفحة طويناها معاً مع نهاية المفاوضات وتوقيع التفاهم».

– الجبهة الثالثة التي يشتغل عليها حكام الغرب وعلى رأسهم أوباما هي جبهة الحلفاء لطمأنتهم أنّ شيئاً لن يتغيّر من التزامات أميركا والغرب تجاههم وتجاه أمنهم ومصالحهم العليا. فالتفاهم الذي لم ينجح الغرب بربطه بتخلي إيران عما وصفه أوباما بالسياسات الإيرانية العدائية نحو حلفاء واشنطن في المنطقة، خصوصاً «إسرائيل»، لم يلزم أميركا ودول الغرب بتغيير سياساتها تجاه هؤلاء الحلفاء، لذلك سينشط الأميركيون والغربيون عموماً، على دول المنطقة بزيارات ولقاءات مهمتها، من جهة الاعتراف بأنّ إيران لم تغيّر شيئاً من سياساتها، وأنّ الخلافات معها لا تزال كبيرة، ومن جهة أخرى أنّ التفاهم النووي مع إيران لم يلزم الغرب بتغيير سياساته نحو حلفائه، وسيقول قادة الغرب لحلفائهم إنّ التفاهم ألغى المخاوف لدى الغرب والحلفاء من مخاطر سبق لحلفاء واشنطن والغرب أن ملأوا الدنيا ضجيجاً حولها وصوّروها كخطر داهم ومحورها اقتراب إيران من امتلاك قنبلة نووية. وفي المقابل سيكون كلّ ذلك مدخلاً لتثبيت حقيقة أنّ الطريق لاحتواء خطر توظيف إيران لما يتيحه لها التفاهم من انتعاش مالي ونفوذ سياسي للمزيد من التوسع والنمو إقليمياً، ليس التصعيد ولا التفكير بمواصلة عناد الحروب بل بتسريع التفاهمات، وجعل التفاهم النووي نموذجاً قابلاً للتوسّع ليصير حزمة تفاهمات. والمدخل متاح من خلال تبنّي شعار أولوية الحرب على الإرهاب كإطار لتعاون إقليمي دولي يتسع لدول المنطقة وإيران، وعلى كتف هذا التصوّر سيكون لسوق بيع السلاح أن يزدهر طبعاً ومن ضمنه طمأنة الحلفاء، خصوصاً في الخليج، إلى أنّ أمنهم تحت الرعاية المباشرة وربما أكثر من ذي قبل، بدءاً من مشاريع نشر درع صاروخية وصولاً إلى المزيد من التموضع العسكري ونشر الأساطيل وعقد الصفقات.

– فريقان لن يتمكن الأميركي وكلّ الغرب من طمأنتهم، هما «إسرائيل» وحلفاء الحلفاء، أو الحلفاء الصغار. فـ»إسرائيل» تدرك أن لا مكان لها في التسويات والتفاهمات ولا في الحرب على الإرهاب، وأنّ المزيد من الرصيد في حساب إيران يعني المزيد من الرصيد المعنوي والمادي في حساب قوى المقاومة وعلى رأسها حزب الله، وتعني المزيد من أسباب القوة المعنوية للشعار الإيراني «الموت لإسرائيل» الذي قد لا يجاوره شريكه التقليدي «الموت لأمريكا»، لكن «الموت لإسرائيل» سيبقى ويرتفع صداه أكثر، ولن يطمئن «إسرائيل» الاستعداد الأميركي للحماية لأنه سيكون مقترناً هذه المرة بالمزيد من التدخل الأميركي في صناعة السياسة والحكم في الداخل «الإسرائيلي». وتعرف «إسرائيل» أنّ زمانها يسير متعاكساً منذ أربعة عقود مع الزمان الإيراني. وقد اختصر بنيامين نتنياهو المعادلة بقوله تصرّف الغرب لطمأنة مخاوفه الأمنية، لكن «إسرائيل» قلقة على وجودها. أما حلفاء الحلفاء فهم الذين لا يستطيعون تصديق أنّ أميركا ذهبت لتوقيع التفاهم مع إيران من دون مقايضات معها على سياساتها الإقليمية، وبقوا يتأمّلون سماع ما يفيد بتغيير في سياسات إيران تضمّنته تعهّدات سيكشف النقاب عنها أوباما في خطابه، فإذ به يخرج ليبشر هؤلاء المنبهرين دائماً بالقوة الأميركية بأنّ إيران لم ولن تتغيّر، وما زالت على ثوابتها، وأنّ واشنطن وعظمتها لم تستطع أن تحصل منها على تغيير حرف من كلمة في خطابها وموقفها تجاه سورية والمقاومة خصوصاً. وعندما يسمع هؤلاء ذلك ويسمعون أوباما يقول إنه يأمل تعاوناً إيرانياً في صناعة التسويات في المنطقة فيتحسّسون رقابهم، لأنهم يدركون أنّ هذه التسويات ستجري على حسابهم. وهذا يصحّ بالنسبة للكثير من الذين تحوّلوا إلى حجارة في لعبة الداما الأميركية في لبنان وسورية وأماكن أخرى في العالمين العربي والإسلامي.

– أراد أوباما أن يطمئن فزرع الذعر عندما قال إنّ من حق «إسرائيل» أن تخاف، وعندما تخاف «إسرائيل» كيف لمن هم دونها أن يطمئنوا؟

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى