بقلم ناصر قنديل

الآن بدأت حرب بوتين

nasser

ناصر قنديل

– يعتقد كثيرون أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دخل المواجهات التي شهدها العالم خلال العقد الأخير، وهو يسعى في كلّ مرة لتفادي هذه المواجهة أو تلك، حتى يجد نفسه مضطراً للتورّط فيها رغماً عنه. ويبني هؤلاء اعتقادهم على أنّ روسيا ليست بقدرة مواجهة حرب استنزاف مع أميركا. ويعتقد كثيرون أنّ موسكو بنت خططها على تبنّي سقوف منخفضة لطموحاتها العالمية بما لا يصطدم مع الخطوط الحمراء التي رسمتها واشنطن، فكانوا في كلّ مرة تبدو واشنطن قد حزمت أمرها على ترسيخ معادلة معيّنة بصفتها مصلحة عضوية أو استراتيجية لها، يتوقعون انكفاء روسيا من ساحة الاشتباك. ولذلك كان جميع هؤلاء يصيبهم الذهول عندما يتلمّسون عناداً روسياً وتصميماً على المواجهة في الختام من جهة، ويرون في المقابل تردّداً روسياً في البدايات وسعياً للبحث عن المخارج الممكنة في منتصف الطريق من جهة أخرى، فيحارون في فهم حقيقة الخيار الذي تقوم عليه استراتيجية الرئيس بوتين.

– في الأزمات التي نشبت في العالم حديثاً، كان الملف النووي الإيراني، وكانت الحرب على سورية وتلتهما الحرب الأوكرانية، ومؤخراً حرب اليمن، وفي كلّ واحدة منها كانت موسكو تبدو متردّدة في تبنّي موقف حاسم في البدايات، متقدّمة بالمشاريع الوسطية لاسترضاء الموقف الأميركي الحادّ وإبعاده ما أمكن عن الخيار العسكري، المباشر أو غير المباشر، سواء كانت أداة الخيار العسكري المفترضة أميركية أو محمية أميركياً أو تحت الرعاية الأميركية. وكانت ساحة التردّد تظهر في كيفية التصرّف الروسي في مجلس الأمن، سواء بالسعي المتواصل للوصول لمواقف مشتركة تتضمّن تنازلات متبادلة، أو أحياناً بقبول تعديل يلغي الطابع العدواني لقرارات تمسّ من يفترض أنهم حلفاؤها في هذه الحروب ولكنها تجعله بلا أنياب، ولا تلجأ إلى الفيتو إلا مرغمة وبعد طول أناة. وفي قلب ساحات المواجهة يبقى شعار روسيا هو السعي لحلّ سياسي للأزمات، وما يتضمّنه الحلّ السياسي من تنازلات وتسويات.

– من ينظر إلى الخريطة ومواقع ساحات الحرب فيها وعليها، يعلم أنها ساحات مصير استراتيجي لأميركا، من جهة، وأنها من جهة أخرى، تغطي الجغرافيا التي تحدد مصير الزعامة الأميركية في العالم، من إيران وملفها النووي، إلى سورية وموقعها المتوسطي، وأوكرانيا وموقعها على فم أوروبا وبوابتها إلى روسيا وجوارها، وانتهاء باليمن بوابة الخليج والبحر الأحمر معاً، حيث من قلب آسيا إلى المتوسط وأعالي آسيا انتهاء بالخليج، تدور رحى حروب الزعامة الأميركية بعد فشل الحروب الإمبراطورية التي دارت على أطراف ساحات الحروب الراهنة في كلّ من العراق وأفغانستان وانتهت بفشل أميركي ذريع. ويلفت المتابع قبل النظر إلى ماهية الأداء الروسي في هذه الحروب، أنها هي الأخرى تنتهي بفشل أميركي مماثل، فتضطر أميركا للدخول في تفاهم نووي مع إيران، وتجد حربها على سورية قد صارت بيد فروع تنظيم «القاعدة»، وحربها في أوكرانيا قد وصلت إلى الطريق المسدود، وحربها في اليمن تدخل حليفها الخليجي الأول في منطقة انعدام الوزن ومسار النفق المظلم.

– في مرتين فقط كانت واشنطن ترفع السقف إلى حدّ التلويح بالخيار العسكري، مرة يوم جاءت بأساطيلها إلى البحر المتوسط استعداداً لتوجيه ضربة قاسية لسورية، ومرة ثانية عندما افتتحت الأزمة الأوكرانية بالانقلاب على الحكم المساند لروسيا، وراهنت على ضمّ الحكم الجديد لحلف الأطلسي. في الحالة السورية تنقل الموقف الروسي من الاستخدام المفرط للفيتو لحرمان النوايا الحربية الأميركية من الغطاء القانوني الدولي إلى استعراض القوة بإسقاط الصاروخين الاختباريين اللذين أطلقتهما البوارج الأميركية قبالة الساحل السوري، وصولاً إلى إعلان وضع شبكات الرصد وغرف الإنذار المبكر في حال استنفار وربطها مباشرة بالدفاعات السورية، وتزويد هذه الدفاعات بأحدث ما في الترسانة الروسية من سلاح مضادّ وفعّال. وفي الحالة الأوكرانية بدا أنّ روسيا قد استعدّت وحضّرت جيداً لفرضية الحرب الأميركية، وحوّلت شبه حزيرة القرم ثمناً سريعاً تضمنه في جيبها، رداً على أيّ تورّط في المفاجآت على طريقة فتح صندوق باندورا الهندي، أو ما يسمّونه بصندوق الأفاعي، فيصير الضمّ السريع للقرم هدفاً معطلاً للحرب، بمجرد الدخول الروسي إليه، وإعلانه دولة مستقلة وضمّه إلى روسيا بعد إنهاء جولات الاستفتاء للخروج من مأزق التصادم المباشر، أو ترك الحبل على الغارب لواشنطن وحلفائها.

– يتبنّى بوتين فهماً للاستراتيجية يقوم على استنفاد الخصم لطاقة الهجوم لديه ووضع كل خياراته على الطاولة، واستهلاك حجارته الوازنة في حروب الاستنزاف، لتبقى له هو وحجارته لا تزال سليمة إمكانية النقلة الأخيرة فتكون غالباً كش ملك. ويبدو واضحاً أن الحروب الأميركية تدخل العد التنازلي مع الاستعداد للتفاهم النووي الإيراني، وما سيليه من تداعيات على الملفات المحيطة في المنطقة نفسها، خصوصاً سورية والعراق ولبنان، بعدما أدت موسكو ما عليها من ضرورات تقنية وعسكرية لحلفائها ليكونوا أصحاب اليد العليا في المواجهات المقبلة. لتكون ملفات المواجهة الآتية، هي أوكرانيا واليمن، شمال المنطقة وجنوبها، حيث تتخطى أوكرانيا حدودها، لتصير اختصاراً لمستقبل الدرع الصاروخية ونشر السلاح الإستراتيجي في أوروبا، ويتخطى اليمن حدوده ليصير أمن الخليج، فيقفل الملفان ظاهرياً، لكنهما يستولدان الملفين الأبعد مدى أمن أوروبا وأمن الخليج وبينهما أمن الطاقة حيث روسيا اللاعب الأهم. وفي كلا الملفين يبدو أن روسيا تستعد لمواجهة أطول من تلك التي كان الأميركي يضعها في حسابه.

– ينطلق بوتين من معادلة قوامها أن روسيا تملك مقومات الدولة العظمى أكثر مما تملكه أميركا، مساحة وسكاناً وتاريخاً ومقدرات موضوعية للنمو الاقتصادي لجهة توازن حجم الثروة الطبيعية مع حجم السوق، والثروة المالية، ومن زاوية المقدرات العسكرية للحرب الفعلية. وأن هذه المقدرات والمعطيات، توجب على كل روسي رفض أي معاملة دونية تنتقص من مكانة بلده الطبيعية ولو أقتضى الأمر حرباً عالمية. وأن سعي روسيا لمعاملة ندية كاملة مع أميركا هو سعي واجب وليس مجرد سعي مشروع. وأن أوانه قد جاء، فأميركا هرمت وتكابر، ولا تملك قدرة الذهاب للحروب، وليست لديها المشروعية، سوى الغطرسة وقوة العادة. وأن وقوف روسيا تحت سقف القانون الدولي وجعله معياراً للعلاقات الدولية مصدر قوة لها في هذه المواجهة، لكنه إطار هذه المواجهة لتكون رابحة أيضاً. فروسيا لا تريد تقاسماً استعمارياً للعالم بينها وبين أميركا، ويقين بوتين هو أن هرم وشيخوخة أميركا باديان في الفشل الذي يلاحقها في حروبها، وفي وصولها للحاجة لحروب منتصرة بأي ثمن حتى تصير التسوية ويصير الحل السياسي هزيمة لها. ولأجل نصر صغير يبدو استعدادها لارتكاب كل ما هو لا أخلاقي وصولاً إلى مستوى التعامل مع الإرهاب لتحقيق مكاسب ولو صغيرة. بالتالي فإن استنزاف أميركا في هذه الحروب يجب أن يبلغ مداه حتى تبدأ روسيا حربها الحقيقية بفرض المعادلة الجديدة، وأن ما عليها في فترة الاندفاعة الأميركية إلا الصمود والثبات والحكمة والامتصاص والاحتواء والمناورة، إضافة إلى رسم الخطوط الحمراء عند النهايات الحاسمة، وهذا ما فعلته وما ستفعله حتى تصل الحروب إلى نقطة الانعطاف الحاسمة وهي تقترب.

– يتصرف بوتين على قاعدة أن أوروبا والخليج هما ساحتا المواجهة النهائية مع أميركا، وأن الأمر لا يتصل بقيادة أميركية بعينها، فنمط التفكير الأميركي لا أخلاقي تجاه القضايا السياسية، قابل لاستباحة كل المحرمات للوصول للهدف، ولا يؤتمن، ولا يؤخذ على عهوده والتزاماته. فكلها تصير حبراً على ورق إذا شعر الأميركيون أن الظروف سانحة للانقلاب، وأن ضمانة روسيا قوتها من جهة، وبقاء أميركا ضعيفة من جهة مقابلة، وبقاء القوى العالمية المناوئة للهيمنة الأميركية على درجة من الحضور والقوة والثبات والانتباه، وعدم الوقوع في الألاعيب والمناورات الأميركية ومحاولات الاستفراد، والاحتواء، والتلاعب بالتحالفات.

– يضع بوتين تحصين الاقتصاد والجيش في روسيا أولوية، وبعدها عدم التسامح بأي استفزاز لروسيا في المدى الأوروبي الحيوي، من الدرع الصاروخية إلى توسيع الأطلسي وانتهاء بنشر أسلحة جديدة ومناورات عسكرية نوعية. وهذا ما سيكون عنوان المواجهة التي سيخوضها بوتين شخصياً في الشهور والسنوات المقبلة. وفي المقابل الاقتصاد العالمي وموقع الخليج فيه، بضوء المتغير الإيراني ما بعد التفاهم النووي، سيكون ساحة المناورة السياسية والاقتصادية والمصلحية، خصوصاً البوابة السعودية المهترئة والمرتبكة والتي لعبت بأمن روسيا واقتصادها وستعرف روسيا كيف تلعب معها.

– بوتين ينهي حروب الاستنزاف الأميركية مع دخول العالم مرحلة ما بعد التفاهم النووي مع إيران، ليبدأ حربه التي لم تبدأ بعد.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى