بقلم غالب قنديل

أولويات النضال الوطني اللبناني

غالب قنديل

ينطلق تحديد المهام في العمل الوطني من فهم التناقضات والتهديدات وتشخيص الواقع بصورة علمية تقود إلى تحديد التناقض الرئيسي وتحديد وجهة التعامل معه والنضال لحله وكيفية التحرك لبناء القوة الشعبية القادرة على التصدي لهذا التناقض باستثمار جيد لجميع اوجه المعاناة والمشاكل التي تثير السخط لدى الطبقات الفقيرة في المجتمع لتعبئتها حول المهمة المركزية المتمثلة بحل التناقض الرئيسي.

تبين التجربة اللبنانية لقوى اليسار المتعاقبة طيلة ما يزيد على نصف قرن ان أخطر الانحرافات المنهجية هو الوقوع في تصور افتراضي نظري منفصل عن الواقع بحيث تصبح المهام المستخلصة افتراضية وهامشية أيضا والحصيلة تبديد الجهود واستهلاك الطاقة الشعبية في غير محلها.

إن من يدقق في الخطاب السياسي المرافق للتحركات الشعبية اليسارية في الشارع راهنا يلاحظ نخبويتها واتسامها بمحورية المسائل والشعارات الاقتصادية المتعلقة بالنظام الريعي وبعناوين مستعارة من أدبيات المنظمات “غير الحكومية” التي ترعاها صناديق التمويل الأميركية والأوروبية ووكالاتها المنظمة تحت شعارات حقوق الإنسان وحيث ينطلق مفهوم التغيير من استعارة واضحة وفي غير محلها لموديل الدولة المتخيلة في وصفات الغرب وخبرائه لدول العالم الثالث بينما ينظر المناضلون اليساريون إلى ذلك الموديل بوصفه نموذجا تنويريا (ربطا بعصر الأنوار الأوروبي) فيقعون في اغتراب عن الواقع وعن التاريخ باستعارات نمطية تطمس حقيقة ان هذا الغرب يقود حلفا استعماريا مع الكيان الاستيطاني الصهيوني الذي يمثل تهديدا وجوديا لوطنهم وتبنى وصفتهم على تجاهل ان الرخاء الغربي بني على أشرس عملية نهب واستعباد لشعوب العالم الثالث المستعمرة وهي علاقة مستمرة ومتجددة تتخذ أشكالا متغيرة تديرها الإمبريالية العالمية وتبدل من وسائلها وتحدثها وفقا للظروف المتحولة عالميا وإقليميا.

التناقض الرئيسي في لبنان هو الصراع ضد منظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية في المنطقة التي تفرض وصاية سياسية واقتصادية على لبنان وتستهدف المقاومة اللبنانية التي طردت المحتل الصهيوني وتفرض معادلة رادعة للعدوان وهذه هي الوصاية هي التي تفرض وتحمي النظام الريعي الذي تتسيد فيه طغمة مصرفية تجارية عقارية مسيطرة أي ما يسميه الخطاب اليساري التقليدي بالكومبرادور اللبناني.

ما لم يقم به اليسار اللبناني حتى اليوم هو محاولة تشريح البنية الاجتماعية التي يناضل من خلالها فالسؤال المحير عن طبقة عاملة مفترضة في لبنان لا يجد جوابا ملموسا في الأدبيات الحزبية بعدما بات أي مسح إحصائي حقيقي كفيلا بتبيان ان الكتلة العمالية الأضخم في الاقتصاد اللبناني تقع خارج اهتمام الاحزاب والهياكل النقابية اللبنانية المتبقرطة وهي تضم مئات آلاف العمال من الأشقاء السوريين والمصريين والفلسطينيين والآسيويين الذين لا تدرج مشكلاتهم او مطالبهم في أي من برامج العمل ولوائح المطالب الطويلة التي درج اليساريون اللبنانيون على طرحها وحدها أفقيا بدون ترتيب اولوياتها فهم يعترضون مثلا على برنامج سيدر من زاوية كونه استمرارا لوصفة غايتها إنقاذ النظام الريعي من وطأة ازماته ويفتشون عن تلبية بعض المطالب الاجتماعية بينما الحلقة المركزية في سيدر هي إحكام قبضة الهيمنة وشراء وقت يؤخر انهيارالنظام الريعي وتمتين الوصاية الأجنبية الغربية بالتحديد صيغها التي تتجلى بالعقوبات المصرفية المعلنة لتكبيل المقاومة ولتعقيم القطاع المصرفي من أي رابط ببيئة المقاومة الاجتماعية وهذه وسيلة من وسائل تثبيت الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية على لبنان.

كذلك يجري توظيف تلك الوصاية الاستعمارية لإبعاد لبنان عن محور المقاومة وعن محور مقاومة الهيمنة في العالم وعن هذا الطريق يجري منع لبنان من الاستفادة الممكنة من التحولات الكبرى التي يشهدها الاقتصاد العالمي بعد انتقال مركز الثروة والنمو من الغرب إلى الشرق.

الوصاية الأميركية تحرم لبنان من فرص الشراكة مع سورية والعراق وإيران وهم الشركاء في حماية لبنان من غزوة التكفير التي قادتها الولايات المتحدة وسائر اطراف منظومة الهيمنة وكذلك تبعده عن مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تقدم فرصا هائلة وضخمة على جميع الصعد المالية والاقتصادية في مجالات التنمية الإنتاجية والنقل وثورة الاتصالات كما هي تقصي لبنان عن أي تعاون دفاعي أو اقتصادي مع روسيا وهذا سر الحملة التي استهدفت عقود وزارة الطاقة مع شركة روس نفط وتعطيل زيارة وزير الدفاع السابق لموسكو.

التحررالنظري من عبودية النمط الاستعماري ومن موديل التبعية اللبنانية هو الطريق إلى تنمية فعلية مستقلة كما هو مضمون التغيير الواقعي عبر التقاط فرص المشاركة والريادة في بناء منظومة إقليمية جديدة ستحقق فوائد هائلة للبنان وتعظم من حجمه الاقتصادي وتتيح له السيطرة على ازماته المتراكمة منذ الطائف وتخطي كوارث العهد الإعماري الذي بني على هندسة شراء الوقت في عملية لحس المبرد الناتجة عن تضخم المديونية وتهميش الإنتاج في ظل المساكنة بين تياري الاستقلال والتبعية داخل صيغة الحكم المبني على الريعية والتقاسم الطائفي وهكذا فإن حماية المقاومة وإسقاط الوصاية هو المفتاح الفعلي لسائر التغييرات التي ينشدها اليساريون بنوايا صادقة تستحق الاحترام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى