مقالات مختارة

نهج أمريكا الضبابي … واستيلاد التطورات. حسن شقير

 

 

متى نفهم أمريكا نحن العرب ؟

على سعة مدى اشمئزازي من السياسة الأمريكية في العالم ، وما جلبته وستجلبه من ويلات وكوارث ومصائب على البلدان والشعوب ، والتي تكون – ومن سوء حظها- بأنها منظورةً من قبل هذه الإمبراطورية التي يحكمها ويتحكم بها خليطٌ من الإيديولوجيا والمصالح المتزاوجة مع بعضها البعض على حد سواء ..

على سعة كل هذا الإشمئزاز ، لا بد لنا من أن نسجل ونعترف – ومن باب الإنصاف – ، بأن ما تقوم به هذه الدولة

، يمثل براعةً وحذاقة ً سياسية ، قل نظيرها بين الدول ، وخاصةً أنها تعتمد على الكثير من العلنية الفاضحة في استراتيجياتها المعتمدة في العالم ، وذلك من دون أن تكترث البتة ، لجهة افتضاح ذلك من قبل خصومها ، لا لإنها تعوّل على عدم قراءتهم وفهمهم لما تخطط له ، أو لما قد تكيده لهم … إنما هي تتكل على أسلوب سياسي بارع في نفث الغبار الكثيف حول ما خططت له ، وتتقصّد التعمية حوله ، وذلك لتشويش الفهم عند كل من يقرأ ، أو حتى عند من يحاول أن يفهم

إنطلاقاً من هذه العقيدة ، والتي تجلى تطبيقها ، وبأبهى صورها ، عند الإدارة الديموقراطية الحالية ، ولدى شخص الرئيس أوباما تحدياً ، حيث استطاع هذا الآخير – وبهذه البراعة في مزاوجته بين الإيديولوجيا والمصلحة – من انتشال أمريكا من الوحول ، وعلى كافة الصعد ، بعد أن كادالجمهوريون ، وعلى رأسهم بوش الإبن ، أن يُغرقوها بها ، وذلك بسبب طغيان الإيديولجيا في ذواتهم على ما عداها ، هذا فضلا ً عن إخفاقهم الكبير في عملية المزاوجة تلك ، والتي أشرنا إليها سابقاً ..

أعترف بأنني ، ويوماً بعد يوم ، ازداد فهماً أكثر لمنشأ السياسة الأمريكية في العالم ، وكذا لكيفية إخراجها أيضاً ، وذلك بعيداً عن التسمّر في ذلك ، عند منهج محدد ، والذي قد يحكم ألية اتخاذ القرار المفترضة في هذه الدولة أو تلك ، إنما أحاول فهم تلك السياسة من خلال مظاهرها التي تظهر فيها ، وكذا الأمر من خلال أثرها المباشر على حلفاء وخصوم هذه الإمبراطورية على حد سواء

إنطلاقاً من ذلك ، لندرس مجموعة من هذه المظاهر التي تتجسد من خلالها السياسة الأمريكية في العالم ، ومن ثم لنتلمس أثرها في الساحات الحليفة و” العدوة ” على حد سواء .. وبعدها ، يمكن لنا – ربما – أن نمسك بالخيوط الفعلية لمسارات الأحداث وتطوراتها في المنطقة ، عل ذلك كله ، يجعل من بعض أصحاب القرار في هذه الأخيرة ، استشراف السياسات الصائبة لمواجهة ذلك ، وخصوصاً فيما خص تنوير الرأي العام الداخلي في هذه الساحلت جميعها ، ولضمان عدم وقوعهم في شرك التشويش المطلوب والمنشود أمريكياً ، وعلى الصعد كافة

في خضم الأجواء الحالية في المفاوضات النووية الإيرانية – الأمريكية ، وذلك على هامش المفاوضات مع الدول الخمسة زائداً واحد ، والتي تحرص الإدارة الأمريكية على الدوام في إشهارها تارة ً ، وإرخاء أجواء من التفاؤل حول مألاتها تارةً أخرى ، لا بل أن الرئيس الأمريكي ، وفي أخر حديث له أثناء اجتماعه مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ، حرص على تهديد الكونجرس الأمريكي بأنه سيستخدم حق النقض الفيتو لإسقاط أي توجه جديد لديه في فرض عقوبات جديدة على إيران ، معللاً أن ذلك ، ليس له من مبرر ، لا بل أن ذلك قد يجعل من منظومة المفاوضات برمتها ، قد تنهار بأية لحظة !!!

ما يلفت في ظاهر هذا التصريح ” الحريص ” ، بأن أوباما شديد الحرص على إكمال مسيرة التفاوض مع إيران ، وصولاً إلى الإتفاق المأمول في نهاية المهلة الممددة له

لا ننفي بهذا الكلام ، بأن أمريكا قد لا تسعى إلى إبرام اتفاق نووي مع إيران ، إلا ّ أن هذا التصريح الأوبامي ، كان قد سبقه اعتراض أمريكي على رفع العقوبات الدولية عنها ، والتي لا يمكن للكونجرس الأمريكي التدخل في منع رفعها ، وأن هذه الإدارة هي نفسها ، من كانت سعت ، وتسعى على الدوام – وأثناء التفاوض- على تخريب البرنامج النووي ، وذلك عبر حرب السايبر ، وهذه الإدارة أيضاً هي نفسها التي وافقت على الرفع الجزئي للعقوبات عن إيران ، وعن الإفراج عن جزء يسير من الأموال الإيرانية المحتجزة في البنوك الأمريكية … ليلي ذلك مباشرة ، ما اصطلح على تسميته بالمؤامرة الأمريكية – السعودية ، على الإقتصاد الإيراني المحاصر ، وذلك من خلال لعبة النفط !!!، مما جعل من هذا الرفع الجزئي عن تلك الأموال بغير ذي فائدة تذكر على الإقتصاد الإيراني … وأمريكا هي نفسها من رفعت لواء الحرب على داعش ، في العراق وسوريا ، وهذا ما يفترض أقله أنه يتكامل مع الإستراتيجية الإيرانية في القضاء على الإرهاب في مجالها الحيوي … إلا ّ أن السلوك الأمريكي يناقض ذلك تماماً ، وقد تجلى ذلك بوضوح في تمكين هذه الشوكة الإرهابية من النخر في الجسد الممانع ، هذا فضلا ً عن قيام الدبلوماسية الأمريكية ( السياسية والعسكرية ) في العراق ، بحركة مغايرة تماماً للهدف المفروض أنه المشترك إيرانياً وأمريكياً في القضاء على الدواعش ، وبأقصى سرعة ممكنة

هذا التشويش الأمريكي المقصود ، يهدف فيما يهدف إليه إلى نفث الغبار الكثيف في أعين كل من يريد فهم استراتيجية أمريكا في تعاملها مع النووي الإيراني من جهة ، وفي إدراك حقيقة نواياها تجاه عدوها المفترض، والمتمثل بالإرهاب في المنطقة .. الأمر الذي ينتج عن ذلك سوء رؤية حتمية عند بعض ٍ من الفئات المختلفة ، والراصدة لتلك السياسة الأمريكية… الأمر الذي تكون تداعياته الأولية ، متمثلةً في إذكاء الخلاف والإختلاف في بعض الساحات المقابلة من جهة ، ودفع أصحاب القرار في بعض منها إلى اتخاذ قرارات غير حكيمة في كيفية التعامل مع هذه الضبابية الأمريكية …..

ماذا تبغي أمريكا من وراء كل ذلك ؟ شقاق في الساحات الشعبية للدول المنظورة أمريكياً ، تعميق الانقسامات في الرؤى السياسية عند أصحاب القرار فيها ، التمسك بأمال وأوهام زائفة في سبيل الخلاص من أزماتها ، استيلاد ديناميات جديدة ، لم تكن موجودة من قبل ، تكون نتائجها ، كارثية حتمية على هذه الدول ، والتي تجعل هذه الأخيرة تغرق أكثر فأكثر في أزماتها ، وذلك بعيداً عن التصويب على المسبب الرئيسي لكل ذلك ، والذي قد يصل فيه الأمر لاحقاْ إلى تقديم النصح والإرشاد لكل تلك الساحات !!!

أليست هذه هي حال أمريكا اليوم في العالم ؟ أليست هذه سياستها في العراق ؟ وكذا تجاه سوريا ، والتي تخضع لنفس النهج الذي تحدثنا عنه سابقاً ؟ أليست هي اليوم تدعي بأنها ، لم. تعد تكترث لبقاء النظام فيها ، من عدمه ، وأن اهتماماتها قد تحولت إلى محاربة الإرهاب ، والتي تخشى ارتداده عليها …. وهي في الوقت عينه تعلن أنها بدأت السير ببرنامج عسكري لتدريب ” المعارضين المعتدلين ” في كل من تركيا وقطر والسعودية ، والحجة مواجهة الإرهاب الداعشي فيها …! وهي في الوقت نفسه تسهل وتيسر عمل بعض الإرهابيين فيها ، وذلك بالإتفاق مع الكيان الصهيوني وتركيا !!! أليست أمريكا نفسها هي من ترفع اليوم لواء الحل السلمي فيها ، وهي من ترفض لغاية اليوم الضغط على حلفائها لعزل الإرهاب ، وتجفيف منابعه ، وسد روافده …!!

أليست النتائج المتوخاة لهذه السياسة الأمريكية في سوريا مشابهة لتلك المتوخاة في الملف النووي الإيراني ؟؟ أليس ما يحدث اليوم هو مزيد من الضياع لبعض من يرقبون هذه السياسة في حصول الإستدارة الأمريكية من عدمها ؟ أليس الكثير من الأطراف المعنية بالأزمة السورية ، تتخبط اليوم في رصد الإشارات الأمريكية المتناقضة ؟؟

هل تختلف سياسة أمريكا تجاه فلسطين عن هذا المسار ؟ أليست أمريكا المنادية بإقامة الدولتين فيها ، هي نفسها من أجهضت حصول مشروع القرار العربي المقدم أخيراً إلى مجلس الأمن ، على الأصوات المطلوبة لإجتيازه !!! وهي في الوقت الذي ترسل فيه الإشارات بأنها غير راضية عن السياسة الصهيونية تجاه الفلسطينيين ، وذلك برفض القرار الصهيوني بتجميد نقل الأموال للسلطة ، وهي في الوقت عينه ترفض فيه الضغط على الكيان الصهيوني للتوقف عن سياسة الإستيطان على ما تبقى من أرض فلسطين ، في حين أننا نراها ترسل إشارات ، تفيد بأنها – عن طريق الكونغرس – ستعمل على وقف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية ، في حال أقدمت على خطوات ” أحادية الجانب ” كما تسميها هي !!!! أليست النتائج المباشرة لهذه السياسة على القضية الفلسطينية ، مشابهة لما أشرنا إليه سابقاً ؟

خلاصة القول ، يبدو أن الباحث الإسترايجي عماد فوزي الشعيبي مصيبٌ في نظريته ، والمتعلقة بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ، والتي يراها ترتكز على نظرية تفوق الفوضى الخلاّقة ، إلى ما أسماه ب ” العماه الخلاّق ” ، والذي لن تقف حدوده عند الساحات التي تعيش ألام المعاناة اليوم ، إنما هو تدحرجٌ استيلادي للأحداث ، يندرج في أصل هذه النظرية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى