الاقتصاد السياسي للتوجه شرقاً (3)

حميدي العبدالله

العوامل السياسية

لا تكفي العوامل الاقتصادية وحدها لإنجاح أي مشروع أو توجه لدولة أو تكتل دولي، إذا لم تكن العوامل السياسية متوفرة، بل إن توفر العوامل السياسية هو الذي يخلق الإطار الضروري لفعل العوامل الاقتصادية، وفي ظل غياب العوامل السياسية لن تفعل العوامل الاقتصادية فعلها.

مثلاً، الدول العربية لها مصلحة من الناحية الاقتصادية في التوحد فيما بينها، وتتوفر لها شروط إضافية أخرى تندرج في إطار ما يعرف بعوامل الوحدة القومية، وهي العوامل التي كانت وراء نشوء الدولة القومية في أوروبا وكانت مقدمة ضرورية لولادة الاتحاد الأوروبي. لكن الدول العربية فشلت في تحقيق الاتحاد فيما بينها في إطار دولة قومية واحدة رغم توفر الظروف والعوامل الاقتصادية، وكان ذلك بفعل غياب العوامل السياسية، أي التدخل الأجنبي والوصاية الغربية على غالبية الحكومات العربية. ومعروف أسباب فشل أول تجربة وحدة بين مصر وسورية، ومعروف أيضاً أن من أسقط الجمهورية العربية المتحدة التي قامت بين أعوام 1958 و1961 هي الدول الغربية وتحديداً الولايات المتحدة بالتعاون مع بعض حكومات المنطقة المرتبطة بالغرب. ومثلما أن غياب العوامل السياسية يعطل فعل العوامل الاقتصادية في نجاح أي مشروع أو توجه، فإن توفرها يسهل نجاح المشروع والتوجه، فهل تتوفر للتوجه شرقاً عوامل سياسية إيجابية تساعد على نجاحه مثل العوامل الاقتصادية؟

لا شك أن هذه العوامل السياسية متوفرة بقوة توازي قوة العوامل الاقتصادية، ولهذا يتم الرهان على نجاح التوجه شرقاً، ومن أبرز هذه العوامل:

•          العامل الأول، إصرار الغرب على الهيمنة والوصاية، ورفض التعامل بندية في مواجهة الدول الفاعلة في الشرق، وتحديداً روسيا والصين اللتان تتبوءان مركز العضو الدائم في مجلس الأمن. من المعروف أن موسكو وبكين تطالبان بإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، وتطالبان بعلاقات ندية بينهم وبين الدول الغربية، وتطالبان بفرصة للوصول إلى الأسواق وإقامة علاقات مع كل دول العام توازي تلك الفرص التي تربط الدول الغربية مع غالبية دول العالم. لكن من المعروف أن الحكومات الغربية وتحديداً حكومة الولايات المتحدة، ترفض التعامل مع روسيا والصين بناءً على هذا المنظور، وتصر هذه الحكومات على إبقاء هاتين الدولتين في إطار علاقة هي أقرب إلى التبعية أو شركاء من الدرجة الثانية، وهذا ما ترفضه كل من روسيا والصين، بل أكثر من ذلك إن الحكومات الغربية تزدري الصين وروسيا وتجلى ذلك في ثلاثة مؤشرات، تؤكد هذه المؤشرات الثلاثة وجود العوامل السياسية التي تساعد على ولادة التكتل الشرقي على غرار الكتلة الأطلسية. المؤشر الأول العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا والصين على خلفية قضايا ذات طابع سياسي، مثل علاقات الصين مع إيران وكوريا الشمالية، علماً أن العقوبات المفروضة على روسيا والصين، لاسيما من قبل الولايات المتحدة لم تنص عليها أي قرارات أممية، أي أنها غير صادرة عن الأمم المتحدة لتكون لها قوة الشرعية التي تلزم موسكو وبكين بها. جميع هذه العقوبات، سواء المتعلقة بالموقف من إيران وكوريا الشمالية وأوكرانيا جاءت على خلفية رفض روسيا والصين الامتثال للإرادة الأميركية والغربية، واعتمادهما سياسة مستقلة تعبر عن رؤيتهما الخاصة ومصالحهما التي قد لا تتطابق مع المصالح الأميركية والغربية. المؤشر الثاني، قيود الدول الغربية على القطاعات الاقتصادية التي تمتلك فيها دول الشرق ميزة تنافسية، وعدم إعطاء فرصة متكافئة على هذا الصعيد توازي الفرص التي منحت للحكومات الغربية.

المؤشر الثالث، سعي الحكومات الغربية للسيطرة على مناطق واقعة في مجال النفوذ الحيوي لكل من روسيا والصين، مثل توسع الناتو شرقاً، وتقييد حركة الصين في بحر الصين ومنطقة الأوراسيا.

•          العامل الثاني، أن جميع دول الشرق المهيأة لتشكيل التكتل الشرقي هي دول مهمة ومركزية، إن لجهة عدد سكانها، أو اتساع أسواقها، أو كونها تاريخياً كانت دولاً وكيانات مستقلة، بل لعبت دوراً هاماً على المستوى الدولي، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وبالتالي هذه الدول متمثلة بروسيا والصين وإيران والهند، وحتى تركيا وباكستان رغم علاقاتهما التقليدية الجيدة مع الغرب، إلا أن لديهما مصالح جيوسياسية وجيواقتصادية تعزز ارتباطهما بالكتلة الشرقية من دون أن يعني ذلك الانفصال الكامل عن الكتلة الغربية. وبالتالي فإن هذه الدول التي تشكل نواة الكتلة الشرقية لن تقبل معاملة الحكومات الغربية لها.

هذه العوامل السياسية تتكامل مع فعل العوامل الاقتصادية لتدفع باتجاهين:

•          الاتجاه الأول، التصادم مع الغرب طالما أصر الغرب على سياسته القائمة على الهيمنة والوصاية.

•          الاتجاه الثاني، حاجة هذه الدول تحت تأثير تقارب مصالحها السياسية والاقتصادية للتعاون فيما بينها لمواجهة وصد محاولات تحدي مصالحها الوطنية.

هذه هي العوامل التي تجعل سياسة التوجه شرقاً تستند إلى الواقعية السياسية بالنسبة لجميع الدول والحكومات التي ترفض الرضوخ للهيمنة والوصاية الغربية، والتي تريد الانضمام إلى الكتلة الدولية الناشئة التي تعارض الهيمنة الغربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى